يهوى الناس الحديث عن الحب، يهواه الناس بكل أطيافهم وأجناسهم ولغاتهم وأعمارهم، وهو حديث تتفتح عليه قلوب الصغار، وتنشرح له صدور الكبار. ومن أهداف كل إنسان طبيعي في الحياة أن يكون محبوباً من الآخرين، واكتساب محبة الناس وإعجابهم دافع أساسي من دوافع جلائل الأعمال، ومن يخدم الناس ويحسن إليهم يكتسب محبتهم، ولا أعتقد أن شيئا يدخل السرور إلى قلب الإنسان أكثر من معرفته بأنه محبوب من الآخرين أو من شخص بعينه. ومن عجائب الحياة الدنيا أن فيها أناساً يسعون لاكتساب محبة آخرين، يركضون ويبذلون المستحيل ومع ذلك لا ينالون محبة هذا المحبوب. كما أن في الحياة أناس مثلهم يلهثون سعياً، ويريقون ماء وجوههم لإرضاء أناس مثلهم؛ مديرين ورؤساء أو أصحاب جاه أو نفوذ فلا ينالون رضاهم ولا يعودون بما أملوا!

لو تنبه هؤلاء المحبون الراكضون، وهؤلاء الساعون اللاهثون أن اكتساب محبة رب العباد ونيل رضاه أقرب إليهم وأسهل عليهم من الركض واللهاث لنيل محبة ورضا بعض العباد لسعوا إليها مخلصين لا يلوون على شيء من أمور الدنيا الزائلة، ولا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.

لو علم هؤلاء أن محبة الله تختصر لهم الطرق إلى أجمل ما في الدنيا وأعظم ما في الآخرة، وتورثهم محبة الناس في الأرض ومحبة الملائكة في السماء لجعلوا ذلك هدف حياتهم الأساسي؛ لأنهم لن يحتاجوا لهدف بعده، فقد اجتمعت فيه كل الأهداف. ويتمثل هذا في حديث أبي هريرة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) (رواه البخاري).

وبعد.. فهل من هدف يستحق أن يسعى إليه الإنسان المؤمن في دنياه أعظم وأسمى من هذا الهدف؟!

وقد عدت إلى كتاب الله أتأمله، فوجدت أن الله جل وعلا صرح بصفات معينة في أناس بعينهم إن توافرت فيهم فهم الذين يحبهم. وقد أحصيتهم فوجدتهم ثمانية أصناف من العباد تكرر ذكرهم في القرآن الكريم على مستويات. وهم على النحو التالي حسب ترتيب ورودهم في القرآن الكريم:

(المحسنون): وهم أكثر من أعلن الله أنه يحبهم، فقد ورد من ذكر محبة الله لهم في خمس مرات في القرآن الكريم.

و(المتقون): وقد ورد ذكر محبة الله لهم في القرآن الكريم ثلاث مرات.

و(المقسطون): وقد ورد ذكر محبة الله لهم في القرآن الكريم.

أما (التوابون) و(المتطهرون) و(الصابرون) و(المتوكلون) و(الذين يقاتلون في سبيله) فقد ورد ذكر محبة الله لكل منهم مرة واحدة في القرآن.

ولا عجب أن يجعل الله المحسنين أول وأكثر من يذكر محبته لهم لأن الإحسان يرتبط بمعاملة الناس. وقد دارت الآيات الخمس التي ذكر الله فيها محبته للمحسنين في محور هذا الجانب السلوكي الأخلاقي الذي جعله الله في مقام أرقى العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، إذ ليس عنده سبحانه أعظم من الإحسان إلى عباده، ولهذا جاء على صيغة الأمر في قوله تعالى {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(البقرة 195)، وجاءت محبته سبحانه في أصعب ما يمكن على الإنسان وهو العفو وكظم الغيظ في قوله تعالى {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(آل عمران 134) وجاءت محبته للمحسنين الصادقين التوبة النصوح والاستغفار الصادق عن الذنب في قوله تعالى {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}(آل عمران 147). وجاءت محبة الله للمحسنين في صيغة أمر للرسول -صلى الله عليه وسلم- من ربه بالصفح عن من يأمل فيهم خيراً من الخائنين والناقضين للمواثيق في قوله تعالى {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }(لمائدة 13). وفي الآية الخامسة والأخيرة يعلن الله جل وعلا عن محبته للمحسنين بعدما ربط الإيمان والعمل الصالح والتقوى بالإحسان في قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}( المائدة 93).

ومن هنا نجد أن المحسنين الذين أعلن الله عز وجل عن محبته لهم في خمس آيات.. وهو أكبر نصيب من المحبة الإلهية على الاطلاق، ارتبطت محبته له بنوع تعاملهم مع عباده، ومن يحسن هذا التعامل بالعفو والصبر والتسامح وكظم الغيظ، وغض الطرف، يرتقي بالتقوى والعمل الصالح إلى أسمى مراتب الإيمان، وهي الإحسان، والإحسان معناه (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فهو يراك).

فتأمل إلى أي مدى يحرص على عباده، ويحض على رحمتهم والتسامح معهم، والإحسان إليهم، ويعد ذلك من أعلى مراتب عبادته وخشيته، وقد فاز هذا النوع من المؤمنين بأكبر جوائزه سبحانه وهي جائزة محبته الكبرى، حيث لم يعلن سبحانه وتعالى محبته لأحد من عباده المؤمنين أكثر من محبته للمحسنين، وهذه أعظم حالات الحب التي لا ينالها إلا السعيد حقاً في الدنيا والآخرة.