تأملات في سورة "مريم"
قال تعالى في الآية الأولى من سورة مريم “كهيعص” قبل ان اشرع في تأمل السورة احب ان اشير الى ما يأتي:
1 اقوال أهل العلم في الحروف التي افتتحت بها بعض السور القرآنية ومنها سورة مريم.
2 علاقة سورة مريم بما قبلها.
3 علاقة اسم سورة مريم بمقصودها.
4 الغرض العام لسورة مريم.
5 ترتيب السور في القرآن الكريم.
الحقيقة ان كل نقطة من النقاط المذكورة تحتاج الى مقالات مطولة، والى بحث مفصل حتى يستوفى الحديث عنها، ولكننا على قدر المستطاع نحاول الحديث عنها والاشارة إليها بإيجاز غير مخل، والله المستعان. اذكر بداية ان بعض السور المكية يختص بافتتاحه بحروف التهجي.
لقد تعددت مشارب أهل العلم والتفسير وتنوعت مذاهبهم في بيان المقصود من هذه الحروف، وقبل ان أبين بعض تلك الآراء اشير اجمالا الى ان مجموعة الفواتح القرآنية تسع وعشرون، وان اكثر الحروف ورودا في تلك الفواتح هي كما يلي بالترتيب: الألف واللام والميم والحاء والراء والسين والطاء والصاد، والهاء والياء والعين والقاف وأخيرا الكاف والنون. ويلحظ ان عدد هذه الحروف الواردة في الفواتح من غير تكرار اربعة عشر حرفا، وهي نصف الحروف الهجائية كما هو معلوم.
تفسير الفواتح
أما عن الآراء في تفسير هذه الفواتح، فإن هناك من تورع عن الخوض في تفسيرها، وأوكل العلم بسرها الى الله تعالى، وقد نقل عن الشعبي قوله عنها أنها: “سر هذا القرآن”، ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه (ان هذه الحروف علم مستور وسر محجوب استأثر الله به).
ومن الآراء ايضا في تفسير حروف التهجي: رأي الصوفية الذي اعتمد على التفسيرات الباطنية والرمزية، وتلك تأويلات توغل في الغموض واللبس والابهام، لأنها تستنبط من مصطلحات الصوفية واسرارهم الخاصة بهم التي لا يفقهها غيرهم، ولذا فإن تفسيرهم تلك الحروف لا يمكن ان يعطي صورة حقيقية وواقعية عن التفسير الاسلامي المعقول لفواتح السور، واذا اردت اخي القارئ ان ادلل لك على غموض وغرابة تأويلاتهم فاقرأ ما قاله اكبر اقطاب الصوفية الشيخ محيي الدين بن عربي في تفسيره لتلك الحروف حيث قال في أحد المواضع: (ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع، ومنها منفرد ومثنى ومجموع، وان في كل وصل قطعا، وليس في كل قطع وصل، فكل وصل يدل على فصل، وليس كل فصل يدل على وصل، والوصل والفصل (يقصد اتصال تلك الحروف ببعضها أو مجيئها منفردة) في الجمع وغير الجمع فما افرده (أي ما جاء مفردا من هذه الحروف غير موصول بغيره كالسور القرآنية التي تفتتح بحرف واحد مثل سور صاد وقاف ونون) فإشارة الى فناء رسم العبد ازلا، وما اثبته فإشارة الى وجود رسم العبودية حالا، وما جمعه فإشارة الى الأبد بالموارد التي لا تتناهى، والافراد للبحر الازلي، والجمع للبحر الابدي). وسأترك للقارئ فرصة التعليق على هذا النص.
وقريبا من دائرة الغموض واللبس نقرأ رأيا آخر في تأويل تلك الحروف، حيث اعتمد أصحاب هذا الرأي على التفسير والاستخراج الحسابي، وهو ما يعرف باسم (عَدّ أبي جاد) فهذا احدهم يقول: (لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للاشارة الى بقاء هذه الأمة) وقد شدد العلماء في انكار هذه العد الحسابي المعروف بعد “ابي جاد” واعتبروه باطلا ومن جملة السحر، ولا اصل له في الشريعة. أما عن رأي اغلب المفسرين المعتبرين فهم يذهبون الى ان افتتاح بعض السور القرآنية بتلك الحروف الهجائية إنما هو للدلالة على ان هذا القرآن الكريم الذي تحدى به الله تعالى ارباب الفصاحة وفرسان البلاغة من قريش فعجزوا عن الاتيان بأقل سورة من مثله انما نزل بالحروف التي يعرفونها، ويكتبون بها، فيكون هذا تقريعا لهم وتوبيخا لإعراضهم عن الايمان به. وهذا رأي رصين وإليه تميل النفس.
واختم تلك الآراء ببيان رأي وجيه يوازي الرأي السابق في اقتناعي به، حيث يرى ان تلك الحروف بدئ بها من أجل إثارة انتباه السامع، وتشويق القارئ، وهذا رأي السيد رشيد رضا.
اسم السورة ومضمونها
مما لا شك فيه ان هناك علاقة وثيقة بين اسم السورة ومقصودها، (لأن اسم كل شيء يظهر المناسبة بينه وبين مسماه وهو عنوانه الدال اجمالا على تفصيل ما فيه) اذن توجد علاقة نسب بين غرض الصورة واسمها، ويحسن بنا ان ننبه في هذا السياق الى ان بعض السور لا يذكر فيها ما يدل بالتفصيل على اسمائها، فمثلا سورة (يونس) عليه السلام لم تبسط قصته فيها كما بسطت في غيرها، ولهذا ليس دقيقا ان نقول: سميت سورة “يونس” بهذا الاسم لورود قصته فيها، وخذ مثالا آخر على ما نقوله، فموسى عليه السلام من اكثر الانبياء عليهم السلام ذكرا لقصته في القرآن الكريم، اقرأ مثلا سورة “القصص” وهي من السور التي بسطت فيها قصة موسى عليه السلام ومع ذلك فلم تسم باسمه.
واجمالا نستطيع القول بأن لكل سورة غرضا عاما ومعنى كليا يعد بمثابة الاصل أو الجذر في الشجرة، أما الاغراض الجزئية في السورة فهي بمثابة الفروع من هذا الجذر أو الأصل، فتكون بهذا تلك الاغراض الجزئية تابعة للغرض العام في السورة القرآنية وراجعة اليه، وان في اسم كل سورة دلالة على مقصودها، وهي دلالة مستنبطة من ان ذلك الاسم مرتبط ارتباطا بذلك المعنى العام أو الغرض الكلي المهيمن على تلك السورة، ومن ثم لا يكون باعث التسمية هو ان الاسم قد ذكر في تلك السورة وانما مدار الأمر في تلك التسمية للسورة القرآنية يكمن في ذلك الاسم المرتبط ارتباطا وثيقا بالغرض العام أو المعنى الكلي المهيمن على السورة كلها.
كمال القدرة الإلهية
وإذا أردنا تطبيق هذا الضابط على سورة مريم، فإننا نشير الى ان المقصود الاعلى في السورة هو الدلالة على كمال القدرة الإلهية وعلى اتصافه سبحانه بجميع صفات الكمال التي منها كمال القدرة الموجب للقدرة على الخلق والايجاد والبعث والنشور والتنزه عن الولد، وعلى هذا، فإن تسمية السورة ب (مريم) له اوثق ارتباط بمضمونها وغرضها العام السالف ذكره، لأن قصتها ابلغ دليل على كمال القدرة الإلهية، فلقد حملت وولدت بلا توسط ذكر، الى جانب ما جمعته من انباع الماء في غير موضعه ورزقها بالرزق الوفير في غير زمانه، كما سنذكر بالتفصيل، وهذا بايجاز وجه ارتباط اسم السورة بمعناها الكلي. والله اعلم.
وسورة “مريم” سورة مكية، نزلت بعد سورة “فاطر” وقبل سورة “طه”.
وجاءت سورة “مريم” في الترتيب المصحفي بعد سورة “الكهف” ووجه ارتباطها بما قبلها ان مقصود سورة “الكهف”، الدلالة على ان القرآن الكريم كتاب سماوي قيم لا عوج فيه، وقد ختمت تلك السورة بمثل ما بدأت به من نعت القرآن، وبالدلالة على التوحيد الخالص النافي لقبول التعدد بولد أو غيره اقرأ قوله تعالى في ختام تلك السورة: “قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا” (الكهف 109 110) وقد ابتدأت سورة “مريم” بالحروف المقطعة التي تشير الى وجه اعجاز هذا الكتاب، تأييدا لنعوته السابقة في سورة الكهف، لأن كلماته لا تنفد، وعجائبه لا حد لها ولا حصر، وأنه لو كان من عند غيره سبحانه لتناقض واختلف وتباين.
ومن وجوه الارتباط بين السورتين ايضا: ان سورة الكهف تضمنت قصصا عجيبة غريبة مثل قصة اهل الكهف والرجلين صاحبي الجنتين وموسى والخضر عليهما السلام وقصة ذي القرنين وجاءت سورة مريم بعد لتتضمن من القصص ما هو اعجب واغرب من القصص التي وردت في سابقتها، فابتدأت بذكر قصة زكريا وبشارته بالولد، ثم بقصة حمل مريم عليها السلام ووضعها، ثم بقصة تكلم المسيح عيسى عليه السلام وهو في المهد ليدل من وراء تلك القصص العجيبة المعجزة على ان “الاسباب في الحقيقة لا يتوقف عليها شيء من مسبباتها إلا بحسب سنة الله، وانما الفعل له سبحانه لا بسبب).
وينبغي ان نشير في هذه المقالة الى ان ترتيب السور في القرآن الكريم ليس باجتهاد الصحابة رضوان الله عنهم كما ذهب الى هذا بعض المفسرين، وانما هو أمر بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ان تسمية السور انما هو بتوقيف منه صلى الله عليه وسلم على حسب ما تعلمه من أمين الوحي جبريل عليه السلام ، وهذا ما ذكره السيوطي في قوله: “وقد ثبت جميع اسماء السور بالتوقيف من الاحاديث والآثار).
بقي ان اشير الى ان أبا جعفر قرأ هذه الحروف المقطعة مفصولة أي بفصل الحروف بعضها عن بعض مع اظهار نون العين هكذا: كاف، ها، يا، عين، صاد، أما بقية القراء فيصلون الحروف بعضها ببعض ويخفون نون العين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ارتباط “الكهف” و”مريم”
ابتدأت سورة “مريم” بالحروف المقطعة التي تشير الى وجه اعجاز هذا الكتاب، تأييدا لنعوته السابقة في سورة “الكهف” لأن كلماته لا تنفد، وعجائبه لا حد لها ولا حصر، وأنه لو كان من عند غيره سبحانه لتناقض واختلف وتباين.
ومن وجوه الارتباط بين السورتين أيضا، ان سورة الكهف تضمنت قصصا عجيبة غريبة مثل قصة أهل الكهف، والرجلين صاحبي الجنتين، وموسى والخضر عليهما السلام، وقصة ذي القرنين، وجاءت سورة “مريم” بعدها لتتضمن من القصص ما هو اعجب واغرب من القصص التي وردت في سابقتها.
مواقع النشر (المفضلة)