تخيل نفسك وقد وضعت في مكان مظلم، ليلا ونهارا فلا يمكنك وأنت قابع فيه، أن ترى ضوء شمس ولا انبعاث أشعة مصابيح تريك طريقك.
أو دعك من التخيل هذا.. فقط أنا الآن أحيلك إلى طريقة عملية سريعة لمعرفة شعورك إذا تبدد الضياء من حولك.. اغمض عينيك قليلا.. بإرادتك.. وابحث عن أشياء ضرورية تريدها.. حذاؤك.. ملابسك أوراقك.. آنية الشرب.. حافظة نقودك.. قلم تكتب به.. طريق تود المشي فيه لتصل إلى مكان ما. قل لي ماذا أنت صانع وأنت في هذه الظلمة..؟
لا عليك افتح عينيك الآن.. وتخيل انك محروم من رؤية ملامحك.. تقاسيم وجهك.. لون شعرك، نظرة عينيك.. أو كيف وأنت تبحث عن ملامح أحبابك فتعجز عن تحديد علاماتها... ولاسيما توهج انفعالاتهم وابتسامة المشاعر على وجوههم.. وخطوط الأزمنة على تقاسيمهم.. واتحاد الأشياء بجوارحهم.
جازف هذه المرة واسرح بخيالك في وضع أشد قسوة واغمض عينيك وأنت في مكان مكتظ بالزحام.. ما بين بشر تعرفهم وآخرين لا تربطك بهم أي علاقة.. ما حالك وأنت جاهل بكنه نظراتهم.. أتراهم عابسين أم ضاحكين.. هل هم فرحون.. أم محزونون؟!
الجموع التي من حولك.. هل تتوافق نظرات عيونهم مع أحاسيسك.. وهل تتوحد مع ما تنبئ عنه ملامح وجهك من مشاعر قابعة بروحك أم ان لا أحد في هذا الزحام يشعر بك ولا تعيرك هذه الجموع اهتماما ما دمت مغمض العينين؟
عد من خيالاتك إلى حقيقتك فأنت مبصر.. ها أنت تراني وتقرأ ملامحي وتكتشف ما وراء نظرات عيني وتقود سيارتك بنفسك، كما انك تتفادى السقوط في بالوعة مفتوحة في الشارع.. لكنني أريدك أن تتخيل نفسك وقد حرمت من نعمة البصر فماذا أنت صانع مع الحياة بما فيها من أمكنة وأشياء، وتضاريس وخرائط وجوه ونظرات وحركات أجساد، لأنك مبصر ولم تحرم النظر إلى الأشياء وما وراءها وتأمل حركة الدنيا وما فيها.. والتجول بعينيك في ألوانها ورسوم كائناتها.. فهذه نعمة تستلزم تأملها بعمق لرؤية قيمتها ورصد ثمنها الذي لا يقدر بثمن.
الشاهد ان الإبصار هو في الحقيقة نور ينبغي أن يعلمنا كيف نصنع علاقة حميمة بالأشياء والبشر وصلة رحيمة بالكائنات.. وتأمل مدلولات اختلاف الليل والنهار وارتفاع السموات... ومعرفة ان فرقا شاسعا بين البصر والبصيرة.. والرؤية والإبصار.. فالكثيرون يرون.. لكنهم لا يبصرون بواطن الأمور..
وكم من المبصرين هم مغمضو البصائر فاقدو الإحساس بآلام الآخرين ومعاناتهم، ولا يتأثرون بما يطرأ على وجوه غيرهم من أخاديد ألم وملامح شجن وأحزان، وكثير من المكفوفين يتناغمون مع الكون ويرون تفاصيل الأشياء ويستطيعون قراءة نبضات القلوب ويتناغمون مع صوت الوجود وتغريد الكائنات... وعيون قلوبهم مفتوحة على الحياة.