أكدت أن المشقة والصعاب تهون أمام أن يصل المرء إلي الهدف
ألمي المحمد تستحق أن تكون أنموذجاً إنسانياً مشرفاً يعكس قدرة الإنسان في التغلب علي الصعاب وقهر المستحيل، فقد أصيبت بفقدان البصر مع ثلاثة من شقيقاتها ولكنها لم تنزو في الظل أو خلف حواجز العتمة بل انطلقت في دروب الحياة تحقق كيانها بكل ما أتاها الله من إرادة التحدي والتفاؤل واستطاعت ألمي أن تتغلب علي إعاقتها البصرية ببصيرتها النافذة وإيمانها الصافي كأعماق المحيطات لتعيش كأي إنسانة بلا إعاقة، بل أن تحقق تميزاً علمياً غير مسبوق لمن هم في مثل ظروفها وواقعها من خلال حصولها علي شهادة الماجستير في الأدب العربي عن أطروحة بعنوان (الصورة الفنية في القرآن الكريم) وهي تحضر الآن لمناقشة أطروحة الدكتوراه هذا العام حول الشاعر المتصوف جلال الدين الرومي. حول نشأتها والظروف التي رافقت تكوينها النفسي والثقافي تقول ألمي ل الراية:
كانت نشأتي وسط أسرة متواضعة مؤلفة من أب وأم وستة أطفال، أربعة بنات وولدين، كانت تربيتنا متوازنة فيها الشدة واللين، الأب كان مرناً في تربيتنا أما الوالدة فكانت قاسية وشديدة في تربيتها لأنها كانت مسئولة عن تربية ستة أطفال في ظروف غياب رب الأسرة الذي كان ضابطاً يخدم خارج المدينة التي نعيش فيها، ونشأت ضمن ثلاث بنات اكتُشف فينا مرض غريب في العيون هو التهاب صباغ الشبكية، وهذا الأمر خلق في المنزل جواً من الكآبة ونوعاً من تأنيب النفس لدي الأب والأم من أن يكونا سبب هذه الإصابة ذات المنشأ الوراثي. كنا أطفالاً صغاراً علي غير دراية بالأمر، ولكن ما نذكره أننا كنا نلقي رعاية مميزة من الوسط العائلي، كان هناك تنبيه دائم وقلق علي حياتنا وهذا الخوف والقلق تحولا فيما بعد إلي شيء ايجابي وبدأ الاهتمام بتعليمنا الاعتماد علي النفس كترتيب البيت وتدبير الحاجيات المنزلية، ولم يقتصر الأمر علي ذلك بل كان الوالد يدربنا علي الكثير من الهوايات كالسباحة والفروسية والرمي بالمسدس وركوب الدراجة الهوائية وقيادة السيارة، وفي نهاية كل أسبوع كان يصطحبنا إلي السينما لحضور فيلم سينمائي جديد تعقبه جلسة في مقهي البرازيل لتناول البوظة والكاتو.
وكان الوالد رحمه الله يختار لنا الكتب التي يقرأها علينا أثناء وجوده في المنزل وأذكر أنني كنت لا أزال في الصف السادس الابتدائي، أي لم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة من عمري حين قرأت روايات عالمية مثل (ذهب مع الريح) لمارغريت ميتشل و(الحرب والسلام) لتولستوي وبعض روايات ألكسندر توماس وهمنغواي وفيكتور هيغو، وهناك بعض الروايات التي قرأتها لي والدتي باللغة الفرنسية إذ كان في مكتبتنا المنزلية الموسوعة الفرنسية وكانت والدتي قد درست في مدرسة الراهبات وأبي درس في اللاييك ثم تخرج من الكلية الحربية في حمص، إضافة إلي ذلك كانت هناك قراءات متنوعة سياسية وتاريخية ودينية إلي جانب كل ما يصدر من مجلات وجرائد آنذاك.
وتضيف ألمي وهي تسرد شريط حياتها: في العام 1977 درست المرحلة الثانوية في مدرسة غرناطة في حمص ثم انقطعت عن الدراسة بعد ذلك نظراً لتدني وضعي الصحي ودام هذا الانقطاع أكثر من عشر سنوات كنت منشغلة خلالها بأعمال المنزل وقراءة الكتب وهذا الأمر أثَّر في نفسي كثيراً وأشعرني بالضيق لأنني كنت أملك الإمكانيات، وفي العام 1979 التحقت بوظيفة في الشركة السورية لنقل النفط الخام وهو نفس مكان عمل والدي بعد استقالته من الجيش، وفي العام 1984 بدأت التحضير لإعادة الشهادة الثانوية حيث كنت أعمل نهاراً في الشركة وأدرس في الليل، وفي العام 1985 حصلت علي الشهادة الثانوية الفرع الأدبي وسجلت في كلية الآداب بجامعة البعث في حمص، وبدأت رحلة الدراسات الأكاديمية وحصلت علي الإجازة في الأدب العربي عام 1989 وتقدمت إلي الجامعة لتدريس بعض الساعات فرُفض طلبي بحجة أنني كفيفة، رغم أنني كنت أثناءها علي رأس عملي في الشركة السورية لنقل النفط وأبصر بشكل عادي، وقد شكل هذا الرفض صدمة نفسية لا أنساها ما حييت، والصدمة الثانية كانت وفاة والدتي في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إليها حيث كانت تمثل بالنسبة لي النور الذي أبصر فيه طريق حياتي هذا الفقد الإنساني الكبير إضافة إلي صدمة المنع من التدريس بحجة أن القانون لا يسمح بذلك دفعاني إلي التركيز علي أشياء أخري وكان يخالجني شعور عميق بأن الإنسان طالما يجد صعوبات وعنتاً من الوسط المحيط والناس فعليه أن يفجر الطاقات الكامنة في أعماقه وألا يبقي في دائرة الاحتياج إلي الآخرين، فالحاجة الدائمة إلي الآخرين والتبعية المستمرة لهم من شأنه أن يشل طاقة الإنسان ويقف به عند حدود معينة، وهكذا لم تمنعني الصعوبات التي لقيتها من الوسط المحيط عن متابعة مسيرتي العلمية فتقدمت لنيل دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي بجامعة دمشق عامي 1989 1990 وأجريت دورة لغة فرنسية للماجستير كنت خلالها أضطر للسفر من حمص إلي دمشق بحدود 180 كم متراً بمفردي ثلاث مرات في الأسبوع أيام الدبلوم، وفي دورة الماجستير كان السفر بشكل يومي ولك أن تتصور مدي المشقة والصعوبات في ظروف كالتي أعيشها، ولكن أمام أن يصل المرء إلي الهدف الذي يرسمه تهون كل الصعاب والمشاق، وهكذا نجحت في دورة اللغة بجامعة دمشق وكنت الأولي علي الدورة وسجلت الماجستير في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق وكان المشرف علي الدكتور الراحل نعيم اليافي الذي بذل الكثير من الجهد والوقت وكان مثالاً للطيبة والتفاني والإنسانية، وكان موضوع أطروحتي في الماجستير (الصورة الفنية في القرآن الكريم) وهو موضوع صعب ومرفوض بنظر الكثيرين لأن النص القرآني باعتقادهم يجب ألا يُقحم في مثل هذه الدراسات، وقد أصررت علي الموضوع ذاته وتشبثت برأيي وساعدني الدكتور نعيم في ذلك، ولكن بعد سنتين أقيل الدكتور نعيم بقرار سياسي وسافر بعدها إلي الكويت ليعمل في جامعتها ولكنه كان دائم الاتصال بي من خلال الرسائل والهاتف وكان يرسل لي كل ما احتاجه من مراجع وكتب وطُلب مني تغيير الكثير من مفاصل الدراسة بعد سفر الدكتور نعيم للموافقة علي مناقشتها، وقد شكل لي هذا الأمر الكثير من الإرباك لأني كنت قد اقتربت من إنجاز رسالة الماجستير بالصورة التي أشرف عليها الدكتور الراحل نعيم اليافي، وهكذا أعدت النظر فيما كتبته بناء علي طلب الوكيل العلمي الذي رفض قبول الرسالة إلا بعد إجراء التعديل المطلوب، وأكملت الرسالة من جديد بإشراف الدكتورة هناء دويدري التي كانت في منتهي الطيبة والإنسانية وساعدتني في إنجاز رسالتي وبقيت ستة أشهر كنت خلالها لا أنام سوي أربع ساعات لأن الوقت المقرر كان ضيقاً، وهكذا اضطررت إلي إعادة الفصول وشطب الكثير مما كتبت، وكان هذا تحدياً بالنسبة لي. ونلت الماجستير وأنا أشعر بغصة أليمة لأنني لم أناقش الأطروحة كما يجب، إذ اقتصرت المناقشة علي جوانب بلاغية هامشية وبعض التفسيرات القرآنية، وبعد الحصول علي الماجستير بدرجة امتياز 85 % التي كنت استحقها لأنني بذلت جهداً كبيراً في تحضير الرسالة، ولكن مقابل ذلك أصبت إصابة بليغة في طريقة توجيه الأطروحة التي أصبحت بعد التعديل، وكما أراها اليوم لا شيء، مجرد كلام مكتوب لا معني له وأيضاً أصبت في نظري فعندما وقفت أمام المدرج بعد الانتهاء من المناقشة وكان الحاضرون يصفقون لي لم أكن أري إلا غشاوة بيضاء، حسبت الأمر بداية نوع من الفرحة أو مجرد غمامة تمر من أمام عينَّي وكنت أؤمل نفسي ولكن في النهاية عرفت أنني أصبت بفقدان تام للبصر لأن الناحية العصبية كانت قد أخذت حدَّها، وبعد الحصول علي الماجستير جلست في المنزل سنوات لم أعمل فيها شيئاً سوي مراسلة جامعة ليون بفرنسا لتقديم الدكتوراه التي قُبلت فيها ولكنني لم أعمل شيئاً لأنني كنت في حالة شديدة من الإحباط، وكذلك راسلت المعهد الإسماعيلي بلندن وبقيت أربع سنوات بلا عمل . اقتصرت فيها علي القراءات ومحاولة تطوير قدراتي، وقد شكلت إصابتي البصرية نوعاً من الصدمة النفسية وكنت محتارة في كيفية الحصول علي آليات أو أدوات أستطيع من خلالها الدراسة، فأنا لا أتقن لغة بريل، ولا مجال أمامي إلا الكاسيتات، وبعد تردد قررت التقدم للدكتوراه في جامعة دمشق بعد أن مُنعت من تقديمها في جامعة البعث في مدينتي حمص بسبب إجراءات روتينية لا معني لها، وبعد أن أجريت امتحان اللغة الفرنسية كنت الأولي علي الدورة أخذت موضوع جلال الدين الرومي الذي كنت أعشقه لأنه كان إنساناً عظيماً مفهوم الإنسانية لديه واضح والفكرة عنده عميقة وجميلة تنحفر في القلب والعقل وقد ساعدني الدكتور محمد علي آذرشب المستشار الثقافي الإيراني السابق في دمشق وزودني بالكثير من المراجع الخاصة ك (الشمس المنتصرة) و(جلال الدين الرومي والتصوف) و (المجالس السبعة) و( يد العشق ) و (فيه ما فيه) و( أغاني سفلية ) وقد قررت الاشتغال علي المثنوي وهو العمل الأهم للرومي كما هو معروف وهو في ستة أجزاء، وكانت هناك صعوبة في قراءته بالنسبة لي فقام الدكتور اذرشب مشكوراً بتكليف إحدي السيدات في المستشارية بتسجيل الأجزاء الستة علي أشرطة مقابل أجر وهذا الأمر أفادني كثيراً في إنجاز العمل بسهولة ويسر والمثنوي كماهر معروف ليس كتاباً سهلاً بل يقوم علي أسس منطقية فلسفية عرفانية تحتاج من المتلقي إلي معرفة وعمق وهذا العام سأناقش رسالة الدكتوراه بإذن الله، وفي هذا السياق لا أنسي أن أشكر الأستاذ جهاد أبو حرب الذي كان له الفضل الأكبر في تعليمي لغة برايل بالعربية والإنجليزية واللغة الإنجليزية بنظام إلكس الذي ابتكره بنفسه إضافة إلي دراسة المنطق وطرق ومهارات التفكير، وهذا الأمر فتح لي أبواباً واسعة بالنسبة لدراستي وحياتي اليومية وبمساعدته قدمت أكثر من محاضرة حول جلال الدين الرومي والتصوف وحول سورتي الفاتحة والكهف وبمشاركة الأستاذ أبو حرب أنجزنا العديد من المشاريع البحثية حول بناء القدرات الفكرية وأهمية عمل الدماغ وانعكاسه علي عمل الإنسان وإبداعه وتفكيره، وهذا الأمر أفضي بنا إلي موضوع القدرات العينية حيث علمني الأستاذ أبو حرب الكثير من الطرق والأساليب لحل المشكلات واتخاذ القرارات وحتي المعالجة حيث نجح في هذا الأمر وتم كشف جزء من الرؤية البصرية بالنسبة لي.
وحول برنامجها اليومي والهوايات التي تمارسها تقول ألمي:
أنا من الناس الذين يستيقظون الساعة الرابعة والنصف فجر كل يوم وعملي اليومي في الشركة يبدأ في السابعة والنصف إلي الساعة الثالثة والنصف أعود بعدها إلي البيت لأمضي وقت القيلولة ثم أتابع أعمالي ودراستي أو أقوم أحياناً بتفريغ بعض الأشرطة التي تساعدني في القراءة والدراسة، أحب الخروج إلي الطبيعة التي أري أن الإنسان جزء منها وإذا لم يكن دائم الاندماج والتواؤم معها يفقد الكثير من مرونته في الحياة، وأحياناً أتردد علي مشروع الأرض الذي أعتبره مشروعاً حضارياً راقياً للاهتمام بالطبيعة والإنسان أما هواياتي الأخري فهي الطباعة علي الكمبيوتر بالعربي والإنجليزي والفرنسي وتعلمت ذلك بواسطة برنامج صوتي ناطق وضعه المهندس الصديق نبيل عيد الذي أدين له بالفضل والعرفان في هذا المجال.
مواقع النشر (المفضلة)