فرض الله العديد من العبادات على المسلم، بغية تهذيب أخلاقه وتقويم سلوكه، وأمره بتنفيذ كثير من الوصايا التي ترفع قدره، فتهيئه لأن يكون إنساناً، لا يصدر عنه إلا ما يتفق وجلال الإنسان، وتبعده عن كل ما يميت روح الإنسانية فيه، فيظل بعيداً عن كل المؤثرات التي تطغى على الجانب الإنساني.

ومن بين الوصايا التي حث القرآن الكريم المسلم على تنفيذها: الإحسان، فقد جاء ذكره في آيات عدة، منها قوله تعالى: “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً” (النساء: 36 )، وقوله: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (النحل: 90)، وقوله: “والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم” (التوبة: 100)، وقوله: “ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى” (لقمان: 22).

ويلاحظ من استعمال القرآن الكريم لكلمة “الإحسان” أن المراد منه ليس إعطاء المال للفقير فحسب، بل مفهومه أعم من هذا، فهو يشمل مواقف الإنسان التي تدل على الخلق المهذب، والسلوك القويم، والتصرف الإنساني الذي يتسم بالتسامح والعفو، يقول الله تعالى: “.. الذين ينفقون أموالهم في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين” (آل عمران: 134)، فقد وصفت الآية من يكظم غيظه، فلا يتسرع برد الإساءة، ومن يعفو عمن يسيء إليه ب “المحسنين”، وهما لم يعطيا مالاً، ولم يتصدقا على محتاج.

ومن معاني الإحسان في القرآن الكريم: أدب الكلام، أي أن من يمسك لسانه عن فحش القول، وبذاءة التعبير، فلا يخرج من شفتيه إلا القول الطيب، واللفظ المهذب يكون محسناً، يقول الله تعالى: “وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً” (الإسراء: 53).

ومما لاشك فيه أن هذه الأعمال التي وصفت بالإحسان لا تصدر إلا عن إنسان ملتزم، يشعر بالمسؤولية، ويحس بما تمليه عليه إنسانيته تجاه إخوانه، ونحو مجتمعه، وذلك هو أعلى درجات الحضارة.

كذلك ورد الإحسان في رد التحية، يقول تعالى:”وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها” (النساء: 86 ) فحسن اللقاء في الإسلام من الإحسان، مع أنه ليس فيه عطاء مال من غني لفقير، بل هو أسلوب مهذب، ينم عن أخلاق عالية، وروح إنسانية.

ولو استعرضنا المزيد من آيات القرآن الكريم التي ورد فيها ذكر الإحسان، لاتضحت لنا معانٍ أخرى استعملت فيها هذه الكلمة، فإذا تلونا قوله تعالى: “وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً” (الإسراء: 23 24)، وجدنا أنفسنا أمام نوع آخر من الإحسان، ألا وهو ما يطلب من الابن تجاه أبويه عندما يتقدم بهما السن، إذ هما في هذه الحالة في حاجة إلى رعاية خاصة. وليس بلازم أن يكون الإنفاق عليهما جزءاً من هذه الرعاية، فقد يكونان موسرين، لكن يسرهما المادي لا يغنيهما عن رعاية يحسان معها بالراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، والشعور بأن ما غرساه قد أنبت ثمرة طيبة مباركة، وذلك هو ما يحتاج إليه الوالدان عند الكبر.

كذلك ورد معنى الإحسان لإرشاد الإنسان إلى حسن المعاملة تجاه إنسان آخر لصيق به، ألا وهي الزوجة، فيقول الله تعالى: “الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان”، فقد طلب الله من الزوج أن يحسن إلى الزوجة عندما تتعثر الحياة معها، فلا يكون هذا الإخفاق في العيش معها سبيلاً إلى الإساءة إليها في طريق إنهاء الحياة الزوجية. فالإحسان إليها عند طلاقها ومفارقتها نهائيًّا هو: معاملتها معاملة إنسانية كريمة