حكم البر باليمين
هل يلزم من أقسم على يمين أن يبر بها مهما كان المحلوف عليه معصية أو طاعة؟ وهل يلزم المحلوف عليه ببر يمين من أقسم عليه، مهما كان قسمه؟ ونجيب عن هذا التساؤل فنقول: إن بر الحالف باليمين يختلف حكمه بحسب الصفة الشرعية لليمين، فإن كانت على فعل أمر واجب كصلة الرحم أو أداء الصلاة أو الزكاة أو نحوهما، أو كانت اليمين على ترك أمر محرم، كالحلف على ترك عقوق الوالدين، أو ترك الفحش من القول، أو ترك أكل الربا أو التعامل به، كان البر بها واجبا، لأن الحنث فيها إنما يكون بفعل المحرم أو ترك فعل الواجب، وذلك محرم، ويكون البر بها مندوبا إليه، إذا كانت على فعل أمر مندوب، كصلاة القيام أو صدقة التطوع أو أداء العمرة عند من يرى أنها مندوب إليها، أو ترك مكروه، كترك تناول الأطعمة أو الأشربة الضارة بصحة المتناول، إذ الحنث فيها يكون بترك المندوب أو فعل المكروه، وهو مما يكره، ويكون البر بها مباحا إذا كانت على فعل أمر مباح، كالأكل أو الشرب أو المشي أو الكلام، أو نحوها، ويكون البر بها مكروها إذا كانت على ترك مندوب أو فعل مكروه، لأن البر بها في هذه الحالة يكون بارتكاب المكروه أو ترك فعل المندوب إليه، فكان الحنث فيها مندوبا، لما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير”، ويكون البر باليمين محرما إذا كانت على فعل أمر محرم أو ترك واجب، لأن البر بها يقتضي فعل المحرم أو ترك الواجب، وترك هذا وفعل ذاك محرم، فكان البر بها محرما، وإذا أقسم الحالف على فعل غيره أو تركه، ندب للمحلوف عليه أن يبر بها إن لم يفض إلى معصية أو ضرر، إذ البر باليمين سنة مؤكدة، فإن أفضى البر بها إلى معصية أو ضرر لم يندب، ويترتب على عدم بر المحلوف عليه بها كفارة يمين تلزم الحالف، ومما يدل على عدم وجوب البر باليمين: حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل أبي بكر رضي الله عنه لرؤيا رجل قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء فيها من قول ابن عباس: “إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه فقال: يا رسول الله إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم فالمستكثر والمستقل، وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا، قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعبرها، قال أبو بكر: أما الظلة فظله الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت، قال: “لا تقسم”، وعدم بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسم أبي بكر دليل على عدم وجوبه، وروي عن عبد الرحمن بن صفوان رضي الله عنه وكان صديقا للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة، فأبى وقال: إنها لا هجرة بعد الفتح، فانطلق إلى العباس فقام العباس معه فقال: يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا هجرة، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه، فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: هات أبرره عمي ولا هجرة”، وهذا يدل على استحباب البر بالقسم إذا لم يترتب عليه محرم أو ضرر، وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم أو عن تختم بالذهب، وعن شرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسي، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج”، والأمر بإبرار القسم أو المقسم إنما يفيد الاستحباب لا الوجوب، لأنه لو كان واجبا لبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسم أبي بكر رضي الله عنه، وبدلالة اقتران الأمر به في حديث البراء بن عازب بما هو من المندوبات: كعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس ونحوها.
مواقع النشر (المفضلة)