الجرح القديم
تقول صاحبة هذه القصة:
لا أعرف كيف أبدأ قصتي التي سأسردها لكم.. إنني أشعر بغصة في قلبي من الألم والحزن.. لا أنام الليل.. زهدت الحياة.
أنا امرأة متزوجة من رجل محترم ومضي علي زواجنا عشرون عاماً.. نعمنا خلالها بالراحة والأمان والسعادة.. رزقنا الله بولد عمره الآن ثمانية عشر عاماً.. ولم ننجب غير هذا الابن لظروف مرضية نصحني الأطباء بعدم الانجاب بعد هذا الابن.. لم أحزن أو أتذمر.. فحمدت الله أن رزقني بهذا الابن الذي تمنيت فيه أن يكون قرة أعيننا وبهجة فؤادنا وروح حياتنا.
ربيناه أحسن تربية ورعيناه أفضل رعاية.. وكلما كبر يزداد سرورنا به ونحن نراه يكبر أمام أعيننا حتي بلغ السابعة عشرة من العمر.. فغدا فتي يافعاً وسيماً.. ومنذ عام تقريباً بدأت المأساة والمعاناة التي لم نكن نتوقعها أبداً.. ذات يوم كنت أنا وابني نتجاذب أطراف الحديث عندما دخلت جارتنا لتشتكي عذابها من ابنها ذي العشرة أعوام الذي يحب تقليد الفتيات في ملابسهن وحركاتهن.. وأنا حاولت تأنيبه وعقابه وتهديده بالطرد من المنزل إن لم يقلع عن هذه العادة فاستنكرت فعلتها وعدم استخدام الوسيلة الصحيحة للتعامل مع المشكلة وقلت لها: إن ابني هذا الذي أمامك كان يفعل مثل ابنك في تقليد الفتيات حتي سن الحادية عشرة فاقتلع عن هذه العادة ولم أضربه مطلقاً وإنما تعاملت مع الأمر بحكمة وتعقل.. وما أن سمع ابني هذا الكلام حتي رشقني بكوب كان أمامه وخرج من البيت غضباناً.. بحثت عنه في المنطقة وعند الجيران وعند الأقرباء ولم أعثر له علي أثر.. أصابني الذعر والقلق والخوف وهتفت إلي زوجي فترك عمله وأخذ يبحث عنه فوجده عند أحد أصدقائه.. فعاد به إلي البيت ونال عقابه من أبيه.. وهدده إذا عاد إلي تصرفه هذا فسوف يكون له عقاب آخر معه.
بعد هذه الحادثة صار ابني خجولاً.. مكتئباً.. حزيناً.. وعلي الرغم من ألمي من تصرفه اعتذرت منه وصرت أعامله بود ولطف.. إلا أن ذلك لم يجد معه نفعاً.. بعد فترة استخدمت معه أسلوب الشدة حتي يخرج عن قوقعة حزنه وكآبته ويعود كما كان.. إلا أن هذا الأسلوب كان له رد فعل عكسي حيث أخذ يثور ويغضب ويعاند.. فتدخل والده ونهره وعاقبه إلا أنه تطاول علي أبيه بأسلوب غير مهذب الأمر الذي أحزننا بالفعل وأدمي قلبينا.. وكيف لا نشعر بالألم وهو ابننا الوحيد وقرة أعيننا وهو الذي وضعنا آمالنا عليه وحمدنا الله سبحانه وتعالي أن رزقنا بهذا الابن يبعث الروح في حياتنا.
***
كل هذه الآلام والمعاناة التي يعانيها ابنك سببها أنك كشفت سره أمام جارتكم حيث أن ملامستك لهذا الموضع كمن ينكأ جرحاً قديماً فيدميه.. لأنه لا يحب أن تعود به الذاكرة إلي تلك المرحلة التي تضم ذكريات مؤلمة ومخجلة خاصة أنه في سن حرجة يبحث فيها عن مكان يثبت فيه رجولته وكينونته وشخصيته وسط أسرته ومحيطه وأصدقائه.. لقد كان يعدك كاتمة أسراره ويثق بك.. لكنه عندما كشفت عن سر لا يريد البوح به فقد تلك الثقة.. فأصابه الخوف والتوتر والانفعال والسلبية وقام بما قام به ليدافع ظناً منه عن كرامته وشخصيته التي أهينت وهدرت.. حيث أخذه خياله إلي أنه سيصبح حكاية علي ألسنة الجيران ومحط سخريتهم واستهزائهم.. وهو ما لا يتمناه أبداً.. ثم جاء عقاب والده ليزيد الأمر سوءاً ليشعره بمزيد من الشعور بالدونية وقلة الثقة بالنفس والنقص والنظر بالسلبية إلي الذات.. هذه الأسباب قادته إلي أن يشعر بالخجل والوحدة والاكتئاب علي الرغم من احتوائه بالعطف و الود بعد ذلك.. ثم انقلب إلي الغضب والتمرد لدرجة التطاول علي أبيه بعد تغيير أسلوب المعاملة من الود إلي القسوة.. أي المشكلة ازدادت سوءاً وتعقيداً بسبب الأسلوب المتبع معه بعد كشف سره أمام الجارة وعودته إلي المنزل بعد خروجه.. حيث كان أسلوب العطف مبالغاً فيه ثم كان أسلوب القسوة مبالغاً فيها.
لا يساورني الشك أبداً بأنك لم تقصدي إهانة ابنك وكشف عيوبه.. لكن طفولة ابنك من المفروض أن تبقي سرية لأنها تخصه وحده.
علي العموم ما حدث قد حدث.. المطلوب الآن إعادة جسور تلك الثقة من جديد بينك وبينه من جهة وبين أبيه من جهة أخري عن طريق توضيح بأن ما حصل خطأ ولن يتكرر أبداً.. وأنكما تحبانه وتتمنيان له السعادة علي سعادتكما.. ثم قدما له أمثلة عن طفولتكما أو عن أناس تعرفونهم بطريقة مرحة وفكاهية وخاصة ما يتعلق بمسألة الشقاوة الطفولية في تقليد الأولاد للبنات وتقليد البنات للأولاد في الزي والحركة.. واعتمد طريق الحوار معه وليس التأنيب والضرب والتهديد كي يشعر بالأمان والاطمئنان والثقة.
إن الأمر يحتاج إلي وقت وإلي مثابرة وصبر لتتمكنا من إعادته إلي توازنه النفسي.. والله المستعان.
رد مع اقتباس
مواقع النشر (المفضلة)