يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: “ادْعُواْ رَبكُمْ تَضَرعاً وَخُفْيَةً إِنهُ لاَ يُحِب الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِن رَحْمَة اللّهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ” (الآيتان: 55-56).
يأمر الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى عباده أن يكثروا من التضرع إليه بالدعاء الخالص فيقول: “ادْعُواْ رَبكُمْ تَضَرعاً وَخُفْيَةً” أي سلوا ربكم أيها الناس حوائجكم بتذلل واستكانة وإسرار واستتار فإنه سبحانه يسمع الدعاء ويجيب المضطر، ويكشف السوء.
وإنما أمر الله عباده بالإكثار من الدعاء في ضراعة وإسرار، لأن الدعاء ما هو إلا اتجاه إلى الله بقلب سليم، واستعانة به بإخلاص ويقين لكي يدفع المكروه، ويمنح الخير، ويعين على نوائب الدهر، ولا شك في أن الإنسان في هذه الحالة يكون في أسمى درجات الصفاء الروحي، والنقاء النفسي ويكون كذلك مؤديا لأشرف ألوان العبادة والخضوع لله الواحد القهار، معترفا لنفسه بالعجز والنقص، ولربه بالقدرة والكمال.
من آداب الدعاء
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أن من آداب الدعاء الخشوع والإسرار واستدلوا على ذلك بأحاديث وآثار متعددة منها ما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا وارتفعت أصواتنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس أربعوا على أنفسكم أي أرفقوا بها وأقصروا من الصياح، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم، إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده”.
وقوله: “إِنهُ لاَ يُحِب الْمُعْتَدِينَ” أي لا يحب المتجاوزين حدودهم في كل شيء ويدخل فيه الاعتداء في الدعاء دخولا أوليا، ومن مظاهر الاعتداء في الدعاء أن يترك هذين الأمرين وهما التضرع والإخفاء.. وكذلك من مظاهر الاعتداء في الدعاء أن يتكلف فيه.
روي أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنا له يدعو ويقول: “اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، فقال له يا بني: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ثم قرأ سعد هذه الآية “ادْعُواْ رَبكُمْ تَضَرعاً وَخُفْيَةً” وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل”.
الإفساد في الأرض
ثم نهى الحق سبحانه وتعالى عباده عن كل لون من ألوان المعاصي فقال: “وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا” أي لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاح الله إياها بأن خلقها على أحسن نظام، فالجملة الكريمة نهي عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان.
يقول صاحب تفسير المنار: قال سبحانه وتعالى: “وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا” لأن الإفساد بعد الإصلاح أشد قبحا من الإفساد على الإفساد، فإن وجود الإصلاح أكبر حجة على المفسد إذا هو لم يحفظه ويجري على سننه. فكيف إذا هو أفسده وأخرجه عن وضعه؟.. ولذا خص بالذكر وإلا فالإفساد مذموم ومنهي عنه في كل حال.
وقوله: “وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً” أي وادعوه خائفين من عقابه طامعين في رحمته وإحسانه وفي إجابته لدعائكم تفضلا منه وكرما.
وقوله عز وجل: “إِن رَحْمَة اللّهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ” أي أن رحمته تعالى وإنعامه على عباده قريب من المتقين في أعمالهم المخلصين فيها، لأن الجزاء من جنس العمل، فمن أحسن عبادته نال عليها الثواب الجزيل، ومن أحسن في أمور دنياه كان أهلا للنجاح في مسعاه، ومن أحسن في دعائه كان جديرا بالقبول والإجابة.
مواقع النشر (المفضلة)