لا شك أن ضبط الكلمة والوفاء بها، واحترام العهود، علامة من علامات الإيمان، فأخلاقيات الإسلام بصفة عامة ليست أعرافا يصطلح عليها الناس أو العقل الجمعى، وليست انعكاسا لأوضاع مادية وقيم نفعية لتيسير التعامل بين البشر.

إنما الأخلاق عندنا هي مقتضى الإيمان الذي يربط الناس بتكاليفه، فالمؤمنون يعملون الخير ابتغاء مرضاة الله تعالى، لا ابتغاء النفع القريب، وإن كان النفع يتحقق بذلك.

فالمسلم بمقتضى هذا الإيمان عليه في الحياة واجبات شتى، ولعل من أول تلك الواجبات، ضبط الكلام وإدراك المعنى الذي يكون وراءه، فإن إرسال الكلام دون حساب معناه انحدار الفكر بصفة عامة.

لذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم وبين في الحديث أنه: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه” (رواه أحمد).

إن الكلمة ليست كما يظن البعض شيئا تافها، بل إنها ذات وزن كبير، فقد أخبرنا القرآن الكريم بأن صلاح الأقوال، معناه صلاح الأعمال، وبأن القول السديد يفضي دائما إلى العمل الرشيد، فهنا دائما بداية كل خير، قال تعالى: “يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ..” ( الأحزاب: 70-71).


القول السديد

والقول السديد عند القرطبي هو القصد والحق، وقال ابن عباس: “أي: صوابا، وقيل هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وهو مأخوذ من تسديد السهم ليصاب به الهدف، والقول السديد يعم الخيرات، ثم وعد عز وجل بأنه يجازي على القول السديد بإصلاح الأعمال وغفران الذنوب، وحسبك بذلك درجة ورفعة منزلة”.

وعند ابن كثير “قولا سديدا أي مستقيما، لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إن فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها”.

إنه شرط بشرط، فمن أراد صلاح الأعمال فعليه إحكام الرقابة على الكلمة، ليكون انطلاقها، انطلاق مبدأ وفكرة، فإن الكلمة المخذولة هي تعبير عن الفكرة المخذولة.

ولأجل أن نرتفع إلى المستوى الأول أو نقترب منه علينا أن نفهم قوله تعالى: “لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ من نجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ اصْلاَحٍ بَيْنَ الناسِ..” ( النساء: 114).

قال المفسرون يعني كلام الناس، أي أن أحاديث الناس غالبا ثرثرة لا خير فيها، ولا ينجو من ذلك إلا من مَلك نفسه، لذا كان الأجر الجزيل عند الله بما جاهد الإنسان من نفسه، لذا جاءت بقية الآية: “وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاة اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً”.

في هذه الآية نجد أمهات ما طولبنا به في شأن اللسان، فتلك النعمة نعمة البيان يجب تسخيرها في كل خير، لكن هناك من يباشر الكلام دون وعي، ويترك الأمور تمشي في غير مسارها، ولا يشعر بما يصنع من تخريب يهدد العمران.

سقطات المجالس

إن قائمة المطلوبات من الإنسان في هذه الناحية كثيرة، والميادين التي يُستدعى فيها ضبط الكلام كثيرة ومتنوعة، وقد حاول الإمام أبو حامد الغزالي في “الإحياء” توضيح هذه الميادين، وهنا نريد أن نلفت النظر إلى أهم السقطات التي نقع فيها وقد لا ندرى بعواقبها، فاليمين الكاذبة، والقذف، وإفشاء السر، والهمز واللمز، والجدال بالباطل، وتجريح العلماء، واستطالة الرجل في عرض أخيه، كل ذلك بعض حصاد مجالسنا، فقلما نجد حديثا سديدا، أو قضية جادة.

إن على العقلاء والمربين إحكام الكلمة دائما، وتربية النشء على ذلك، لكن العلاج لتلك الآفة والصبر عليه، في حاجة إلى رياضة مستمرة، وترويض دائم.

يجب أن نعلّم الناشئة فضائل احترام كلمتهم، والوفاء بعهودهم مهما كانت صغيرة والبعد عن الكذب، وهذا في حاجة إلى تقديم نماذج عملية ومثل أعلى، فالتربية لا تأتي بمجرد سرد النصائح والتوجيهات.

إن الكلمة المحكمة تنفع الناس في يومهم وغدهم، لأنها الضمانة الأولى لثبات العقائد، واحترام المعاملات، وهذا ما جعل ابن القيم رحمه الله يضع القاعدة ويقول: أثبت الناس قلبا، أثبتهم قولا.