من القيم المهمة التي لها أثرها العميق ودورها الكبير في حياة الناس أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا، قيمة “الوفاء”. ولم يكن العرب قديما على صواب حينما جعلوا الوفاء، وبخاصة في محيط الأصدقاء، من بين المستحيلات الثلاثة التي قصدوا بها الغول والعنقاء والخل الوفي. فهذه نظرة تشاؤمية لا تليق بالإنسان من حيث هو إنسان، ولا يجوز تعميمها على هذا النحو بناء على بعض خبرات فردية لا ترقى إلى أن تكون قاعدة عامة.

وانطلاقاً من الأهمية القصوى لقيمة الوفاء في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات وعلاقات الشعوب بعضها مع بعض، اهتم الإسلام بها اهتماما لا حدود له. وقد جاء استعمال مفهوم الوفاء في القرآن الكريم على أنحاء مختلفة. فتارة يأتي وفاء بعهد الله، وتارة وفاء بالعهد على نحو مطلق وعام، وتارة يأتي وفاء بالعقود، أو وفاء بالكيل والميزان، أو وفاء بالنذر. وهذا يدلنا على اتساع مساحة الوفاء. فليس الأمر يتعلق بعلاقة بين صديقين فحسب، وإنما الأمر يشمل جميع العلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب، ويتجاوز الدائرة الضيقة بين فردين إلى دائرة أوسع تشمل الإنسانية كلها.

ويدخل في إطار الوفاء المطلوب الوفاء لماضي الأمة وتراثها وتاريخها. فلا يجوز للمرء أن يتنكر لماضيه، فالذي ليس له ماض لا مستقبل له. ولسنا نعني بالوفاء لماضي الأمة وتراثها تقديس هذا الماضي وتبرئته من كل العيوب، وإنما المقصود هو ألا يفصل المرء بين يومه وأمسه، فالزمن حلقات متصلة. ومن أجل ذلك لا يجوز أن تكون هناك قطيعة مع هذا الماضي لأنه يشتمل على الجذور، وفصل جذور الشجرة عن ساقها يميتها.

الوفاء للماضي إذاً يعني الحفاظ على الهوية وتنمية الإيجابيات التي يشتمل عليها الماضي وتجنب السلبيات، بالإضافة إلى مراعاة متغيرات العصر. وهذا ما يمكن أن نطلق عليه “الجمع بين الأصالة والمعاصرة”.

ويدخل في مفهوم الوفاء أيضا الوفاء لعلماء الأمة ومفكريها وعظمائها ممن قدموا للوطن خدمات جليلة. والوفاء لهم يكون بإحياء ذكراهم والاعتراف بفضلهم، وتعريف الأجيال الجديدة بجهودهم وتضحياتهم وعطائهم. وبذلك نقدم لهذه الأجيال نماذج مشرفة يقتدون بها، ويحذون حذوها في البذل والعطاء مما يعود بالخير على الوطن والمواطنين.

ويرتبط الوفاء في التصور الإسلامي بالصدق وبالتقوى. ومن هنا جاء حديث القرآن الكريم في وصف الموفين بعهدهم والصابرين بأنهم الذين صدقوا وبأنهم المتقون: “أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون”. وإذا كان الوفاء بالحقوق والعهود والمواثيق أمراً يحتمه الإسلام فإنه لا يفرق في هذا الصدد بين المسلمين وغير المسلمين. فالقيم لا تتجزأ ولا يجوز أن تطبق بطريقة انتقائية.

ومن الطبيعي أن يكون الوفاء علاقة تبادلية، فكما تتوقع مني أن أكون وفياً معك يجب أن تكون وفياً معي أيضا، وإلا فمن غير المنطقي ومن غير المعقول أن تطلب من الآخر أن يكون وفياً لعهودك وفي الوقت نفسه لا تفي أنت له بعهد ولا ذمة. وفي ذلك يقول القرآن: “وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم”.

ويضع القرآن الكريم أمامنا أسمى أنموذج في الوفاء متمثلا في وفاء الله بعهده لعباده: “ومن أوفى بعهده من الله”، فليس هناك في حقيقة الأمر من يستطيع الوصول إلى هذه المرتبة العليا في الوفاء المطلق. ولكن ليس معنى ذلك ألا نبذل قصارى جهدنا في السعي الحثيث نحو الوصول إلى هذه الغاية. فالمثل العليا تمثل بالنسبة لنا نماذج قصوى ينبغي أن نسير على هداها وأن نقتدي بها في سلوكنا وفي كل ما يصدر عنا من أقوال وأفعال.

والقيمة السلبية المقابلة للوفاء هي الغدر والجحود، ونكران الجميل ونقض العهود والمواثيق. ومن هنا جعل النبي عليه الصلاة والسلام خلف الوعد وعدم الوفاء به علامة من علامات النفاق، بل يصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك بانتفاء صفة الدين عمن لا يفي بعهده كما جاء في الحديث الشريف “لا دين لمن لا عهد له”، ومن شأن عدم الوفاء على النحو المشار إليه أن يدمر العلاقات بين الناس أفرادا كانوا أم جماعات.

صحيح أن البشر ليسوا ملائكة، ولا يمكن أن نكون من السذاجة بحيث نعتقد أن المجتمع أي مجتمع يخلو من الشر ومن الأشرار، ولكن المبالغة المفرطة في هذا الصدد غير مقبولة، ومن شأنها أن تهدم العلاقات الإنسانية، وتجعل كل فرد ينظر إلى الآخر نظرة توجس وخوف، كما نجد ذلك عند الفيلسوف الإنجليزي “توماس هوبز” الذي ذهب إلى القول إن “الإنسان ذئب بالنسبة لأخيه الإنسان” وإن “الكل في حرب ضد الكل”.

وإذا كان الإسلام حريصا على الوفاء بالعهود بين الله والعباد فإنه حريص أيضاً بالقدر نفسه على الوفاء بالعهود بين الأفراد والجماعات، وبين الأمم والشعوب حتى يعم الأمن والسلام والاستقرار المجتمع كله، ويسود الوئام بين الناس. فلا يمكن أن يتصور المرء مجتمعا مستقرا وآمنا دون أن يكون هناك وفاء، أي: التزام أخلاقي بين الناس من شأنه أن يبعث الثقة في النفوس والاطمئنان في القلوب حتى ينصرف الناس إلى أعمالهم وتحمل مسؤولياتهم في مناخ يتفق مع إنسانية الإنسان.