إنّ أعاصير الرياح لا تهبُّ بالأتربة الجرداء من النّدى إلاّ حين تجفُّ أرضية الإنسان من الحب، وترابية الإنسان قد هذّبتها الروح فاستقرت مكوّنات الإنسان بجسده وروحه، حيث تلوّنت بسموِّ العاطفة التي أودعها خالق الإنسان عزّ وجلّ، والتي بها تتخلّق كلُّ العلاقات الإنسانية، وما يترتب عليها من واجب ومسؤولية.

والعاطفة رادفٌ إنسانيٌّ واجتماعيٌّ بل حقيقة يحرص عليها كل من يدرك أنّ للحب التزاماً ونتائج، وكل التزام يُنجزُ في حينه وبالجهد المخلص يحرك أثراً من السرور والرضى على النفس، وهذا كله لا يتم حين اضطراب العاطفة وفوضى الوجدان.

وبعضٌ من العاطفة فطريُّ النشأة والوجود، وبعضٌ آخر يُكتسب؛ فمحبة الوالدين عاطفة متميّزة يكبر بها الإنسان، وما يلحق بها من التزام حيث البرّ بالوالدين أمرَ الله به، واقترن بعبادته عزّ وجلّ، والحب الذي يؤدي إلى واجب صلة الرحم من أسمى عواطفنا الإنسانية.

وهذا هو الحب الفطري، أمّا المكتسب فأقرب الأمثلة أن تؤدي حالة من التعارف إلى صداقة حقّة تنمو في أحضان الحب بكل واجباتها، ومسؤولية الارتباط بها.

والحب بمعانيه المختلفة، ودوافعه المتعدّدة جاء به الذكر الحكيم في قوله عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (87) سورة المائدة، وقوله سبحانه: {قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (32) سورة آل عمران وقوله عزّ وجلّ: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(31) سورة آل عمران.


والحديث القدسيُّ إشارة إلى الحب، وتوجيه كريم حيث الحديث وفق النص: (من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب. وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه. وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصرُ به، ويده التي يبطشُ بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنّه).

وعن الحب وأثره يقول الشاعر:

الحبُّ روحُ الكون لولاه لما

عاشت به الأحياء بضع ثواني

الحبّ ينبوع الحياة تفجّرت

من راحتيه سعادة الأكوان


والحب استقراره في الوجدان طريق إلى الخالق سبحانه وتعالى، فمحبته سبحانه ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل الأنبياء والرسل عليهم السلام عمق وبُعد في روح العقيدة ليصل الإنسان بعد انتقاله برحمة الله من الحياة العابرة إلى حياة الخلود ونعيمها الدائم، فمن منّا لا يحب حياة الآخرة بكلِّ ما نعرفه عنها من نعيم!

وعاطفة الحب بعد ذلك لا تهبط بنا ولا يتأثّر شيء من بريقها حيث أمرُ الخالق الذي اقترن بعبادته من خلال طاقة الحب للوالدين والبرّ بهما، وذلك أسمى معاني الحب، وأعظم التزام بالواجب والمسؤولية، كما أنّ هذه العاطفة نفسها هي من تسخِّرنا لفلذات أكبادنا فنعطي بلا حدود، ونُعينهم بكلِّ امتنان ورضى على حياة كريمة مستقرة.

كما أنّ العاطفة وفق طاقة الحب مدخلٌ رحبٌ للتسامح والعفو والسمو حيث قال الحق سبحانه: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (134)سورة آل عمران.

وأمرٌ كهذا لا يقوى عليه من اختلت به الكراهية، فالقدرة نحو هذا السلوك لا بدّ وأن يعزِّزها قدر من حب الناس وحب الخير لهم. ولنا علاقة لا تنقطع بالآخرين، ومنهم الصديق والعدو، وعن هذا المجال قال الحق سبحانه وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت وهو إعجازٌ لا يقوى عليه الإنسان إلاّ بطاقة الحب حين يكون منهاجاً وطبعاً.

كما أنّ الإحسان والصدقة والشفقة جميعهم ينضوون تحت عباءة الحب وفي هذا رضى للخالق بعزّة جلاله، ومطلق جماله. وهو حافزٌ للرضى على النفس بأثر الاطمئنان من خلال العطاء والشراكة بين الإنسان وأخيه.

ومن المؤكّد والثابت بالنسبة لنا كمسلمين أنّ أشياء كثيرة تحيط بنا، ولكن ما هو في الطليعة وما هو سبب لوجودنا على هذا الكوكب عقيدتنا التي نكبر بها، ونسمو وبالذات من خلال المنهاج القرآني العظيم؛ فأفضل سلوك يتميّز به الإنسان في الأصل جاء به المنهاج القرآني بتمام وكمال لا مثيل له، فعسى أن يديم الله بفضله هذه النعمة تفعِّلنا ونفعِّلها على طريق الحياة، والعين ترصد وتتمنى رحمة الخالق عزّ وجلّ.

أعجبني فأحضرته لكم