بدأت بحجرات وصوامع على أسطح المساجد

كان دورها أول الأمر رفع الأذان إلى أبعد مكان، وأكبر عدد من السكان، وبمرور الزمان تقدمت فنونها الهندسية وتبلورت معانيها الروحية وتألقت قيمها الجمالية، وأصبحت تحفة العمارة الإسلامية.. بدأت بحجرات وصوامع على أسطح الجوامع، وظهرت على زوايا المسجد النبوي خلال العصر الأموي.

صنعت مع القبة مشهدا قويا عبقريا تهفو إليه قلوب الصغار والكبار في الليل والنهار، وتكاثرت على امتداد الساحة الإسلامية والعالمية، تنادي خمس مرات في اليوم والليلة (حي على الفلاح) وتقاوم الزلازل والأمطار والرياح رغم ارتفاع هامتها وامتداد قامتها بأساساتها القوية وعمارتها الانسيابية.

أطلقوا عليها في البداية اسم (المنارة) لأنها كانت تضيء ليلا من ساعة الغروب حتى مطلع الفجر، وتعددت طرزها وأشكالها، تبعا لزمانها ومكانها فجاءت دائرية واسطوانية ومخروطية وحلزونية، وأيضا مربعة أو مضلعة ذات أشكال سداسية أو ثمانية.

كانت المساجد في صدر الإسلام من غير مآذن، وخلال العصر الأموي تم تخصيص مكان يرتفع قليلا عن سطح المسجد يقف عليه المؤذن، تحول بالتدريج إلى حجرة، ثم صومعة من عدة حجرات يعلو بعضها فوق بعض واشتملت على مكان للمقرئين والمؤذنين وقد ظهرت في مساجد الشام ومصر وشمال إفريقيا.

ظهرت المآذن على الزوايا الأربع للمسجد النبوي خلال التوسعات والتجديدات التي جرت في عصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (88 96ه) الذي أمر عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز بتوسعته وعمارته، وإضافة حجرات أمهات المؤمنين إليه، وشراء المنازل المجاورة ليصبح طوله 200 ذراع وعرضه من 180 200 ذراع (وكان في البداية 60 70 ذراعاً).

ومن أشهر العمارات التي جرت للمسجد النبوي ما تم خلال عصر السلطان المملوكي قايتباي (886ه)، الذي أجرى عمارة شاملة للمسجد بلغت تكاليفها 100 ألف دينار، حيث أتقن هندسته وأحسن زخرفته وجدد مآذنه وأنشأ مدرسة تطل عليه.

وخلال العصر العثماني شيدت المئذنة المجيدية (1277ه) ضمن عمارة شاملة بلغت تكاليفها 750 ألف جنيه ذهب (مجيدي) في عهد السلطان عبد الحميد.

وفي عهد الملك فهد بن عبد العزيز وخلال التوسعة السعودية الرابعة، أضيفت 6 مآذن جديدة بارتفاع 99 مترا تصل إلى 105 أمتار بإضافة الجزء الحامل للهلال بزيادة 33 مترا على ارتفاع المآذن الأربع القديمة (العزيزية والسنجارية والرئيسية ومئذنة باب السلام).

وفي المسجد الأقصى 4 مآذن، هي مئذنة باب المغاربة (جنوب غرب المسجد) ومئذنة باب السلسلة (الجهة الغربية) ومئذنة باب الغواغة (الشمال الغربي) ومئذنة باب الأسباط (الجهة الشمالية).


“ابن طولون” و”الأزهر”

ومئذنة جامع أحمد بن طولون هي الوحيدة في مصر ذات السلم الخارجي، وتتكون من 4 طبقات: الأولى مربعة، والثانية مستديرة، والثالثة ثُمانية، والرابعة أعلاها طاقية تشبه المبخرة، وتبلغ مساحة الجامع 5.6 فدان وقد أسسه ابن طولون بالقاهرة (256ه) واكتمل في (265ه)، وطولون كلمة تركية تعني القمر الكامل أو بدر البدور.
أنشئت هذه المئذنة على غرار مئذنة جامع المتوكل في سامراء بالعراق في العصر العباسي (الملوية).

وخلال العمارة التي أجراها السلطان المملوكي مراد بك لجامع عمرو بن العاص أول مساجد إفريقيا (جامع الفسطاط) تم إنشاء مئذنتين قائمتين حتى الآن، وهما قصيرتان دائريتان، مخروطيتان من أعلى، ولكل منهما شرفة واحدة.

ظهرت على الجامع الأزهر 6 مآذن، بقيت منها ثلاث.. ومئذنة المدرسة الأقبغاوية المجاورة له أول مئذنة في مصر تقام من الحجر المنحوت، ومئذنة قايتباي من أجمل المآذن بزخارفها الإسلامية الهندسية والبنائية.

لكن مئذنة الغوري (1514م 920ه) اشهرها وأعلاها ولها رأس مزدوج ومغطاة بالرخام.

ومن تقاليد الأزهر أن يكون المؤذن مكفوفا طبقا لأمر من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يكون المؤذن مكفوفا في سائر مساجد الأقطار حتى لا يعتدي على حرمة الجوار.

وكان لكل مئذنة خلوة أو مكان للمؤذن ينظر فيه موعد الصلاة الذي يتم تحديده بسبعة مزاول ميقاتية. وفي جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي مئذنة اسطوانية وأخرى ثُمانية على قاعدة رباعية عليها زخارف إسلامية وأشرطة بالخط الكوفي.

وعصر السلطان قايتباي هو الأشهر في مجال الاهتمام بالمآذن والعمارة الإسلامية بوجه عام خلال العصر المملوكي، والمئذنة المملوكية هي أغنى المآذن بزخارفها وعناصرها الجمالية وتقام على قاعدة مربعة فوق جسم ثماني الأضلاع يعلوه جزء دائري فوق رأس المئذنة الذي يحمل الهلال.

المئذنة المربعة

ويشتمل حرم المسجد في العمارة العثمانية على مدخلين أو ثلاثة وتعلوه 4 مآذن أو مئذنتان، والمئذنة العثمانية طويلة مدببة عند قمتها، تشبه قلم الرصاص، ولها 3 شرفات.

ومن أمثلتها مآذن ومساجد آيا صوفيا وبايزيد الثاني والسلطان أحمد في اسطنبول ومحمد علي في القاهرة 84 مترا.

وأخذت المئذنة شكلا مربعا في بلاد الشام وشمال إفريقيا والأندلس مثل مئذنة الجامع الأموي في دمشق، وجامع حلب وجامع، الزيتونة بتونس، ومئذنة الكتبية في مراكش.

وفي مسجد مدينة جينين الكبير في مالي 3 مآذن مربعة تستند إلى 18 دعامة، حيث تنتهي كل مئذنة بشكل يشبه بيضة النعامة، ويرجع تاريخ المسجد إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وأعيد بناؤه بالطوب اللبن بالكامل سنة 1907م، وفي العراق وإيران والهند وباكستان يغلب على المآذن الشكل الاسطواني، ومن نماذج المآذن في المساجد الحديثة في العالم الإسلامي: مسجد السلطان صلاح الدين في ماليزيا، وله 4 مآذن على الطراز العثماني، يبلغ طول كل منها 5.141 متر وهي أعلى مآذن العالم، وتستخدم المصاعد الكهربائية، وقد أنشئ سنة ،1988 وجامع الملك محمد الخامس على المحيط الأطلنطي بالدار البيضاء بالمغرب، ويبلغ طول مئذنته 120 مترا، أنشئ سنة ،1993 وجامع السلطان قابوس بن سعيد بمسقط وله 5 مآذن، ويبلغ طول المئذنة الرئيسية 91 مترا، وباقي المآذن 45 مترا، وجامع الفتح بالقاهرة وطول مئذنته 95 مترا تقريبا، ومآذن مساجد وسط إفريقيا لها قمة مخروطية ومنها مسجد فور لامي في تشاد.

وحدة معمارية

يتم بناء المئذنة كوحدة معمارية مستقلة تدق أساساتها على أعماق كبيرة تحدد بعد إجراء تحاليل كاملة للتربة لمعرفة مدى تماسكها وصلابتها.

وتقام المئذنة على عمود قوي من حوله قاعدة مربعة وتغلب على عمارتها الأشكال الدائرية والبيضاوية والمخروطية ما يساعدها على مقاومة الزلازل والرياح والأمطار، ويساعد السلم الحلزوني بداخلها والفتحات والشرفات على زيادة مقاومتها وصلابتها وأيضا عدم وجود أحمال عليها من أجزاء المسجد الأخرى.

وقد تأثرت العمارة والفنون الأوروبية بالمئذنة وغيرها من رموز العمارة الإسلامية، وظهر ذلك واضحاً في أعمال ماربلا خلال القرن التاسع عشر (لوحات التصوير الرومانسي). ومن قبله تأثر المصورون الإيطاليون بالمئذنة ومن أعمالهم لوحة محفوظة بمتحف اللوفر بباريس عن استقبال السلطان الغوري لسفير البندقية عام ،1512 وظهرت فيها أسوار مدينة إسلامية بمآذنها وقبابها وزخارفها.

وخلال الفترة من القرن 14 17 تأثرت العمارة الأوروبية بالعمارة الإسلامية بصورة واضحة وجاءت أبراج كنائس طليطلة تحاكي المآذن الإسلامية بتفاصيلها وزخارفها.

كما استفاد الفنانون المسلمون المعاصرون من تراثهم الثري الفريد، فاستخدم الفنان صالح رضا المآذن في أعماله، حيث نشأ بالقاهرة القديمة وتأثر بمآذنها خاصة المآذن المملوكية، كما صور الفنان محمد صبري الرموز الإسلامية في لوحاته ومنها المآذن والقباب.

المؤذن الأول

وبلال بن رباح “رضي الله عنه” هو أول مؤذن في الإسلام، وقد هاجر من مكة إلى المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي في دمشق 641م، عن 60 سنة، وكان مولى أمية بن خلف، الذي سامه سوء العذاب الى أن اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأعتقه.

أذّن بعد الفتح فوق الكعبة، وشهد الغزوات، واشترك مع ابي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه في فتح الشام وأذّن في فلسطين عند زيارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه للقدس الشريف.

والمؤذنون هم أطول الناس أعناقا يوم القيامة كما يقول الحديث النبوي الشريف.

وأشهر أذان لإبراهيم الخليل عليه السلام، حيث أمره الله عز وجل بأن يؤذن في الناس بالحج. فقال: ومن يسمعني في هذه الصحراء الجرداء، قال السميع العليم سبحانه وتعالى: “عليك الأذان وعلى البلاغ”.

وأذّن الخليل، ووصل الأذان عبر الزمان والمكان إلى كل من في الأرض والسماء حتى من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء.