أبو عبيدة بن الجراح تمنى الشهادة فقتله الطاعون
كان أبو عبيدة عامر بن عبدالله، المعروف بأبي عبيدة بن الجراح، الفهري القرشي، من السابقين في الاسلام، وكان أيضاً من العشرة المبشرين بالجنة، وقد وقفت أسرة أبي عبيدة ضده بكل ما تستطيع وحاولت بكل الطرق أن تصده عن الاسلام، وبالغت في ايذائه والنيل منه، وكان على رأس المنكلين به المعذبين له والده عبدالله الجراح.
ولما اشتد الاضطهاد والأذى على المسلمين جميعاً وعلى أبي عبيدة ولم يجد في قبيلته من يقف معه، إذ تواطأ الجميع عليه، هاجر إلى الحبشة مع المسلمين في هجرتهم الثانية، فاجتمع شمله باخوانه الذين سبقوه في الهجرة الأولى إلى الحبشة، حيث تعاون الجميع على تكوين جزيرة اسلامية مؤمنة وسط محيط نصراني تعيش في ظلاله، تحت حماية النجاشي الذي كان رجلاً عادلاً، وكان نصرانياً حنيفياً يميل الى احياء دين المسيح الصحيح.
عاش أبو عبيدة في هذا المناخ الطيب إلى أن سمع المسلمون، وهو منهم، شائعة قوية تقول إن أهل مكة أسلموا واصطلحوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من أمر أبي عبيدة وكثير ممن معه أن تعجلوا العودة إلى مكة مهوى أفئدتهم من دون أن يتحققوا صدق ما سمعوا فناله من جديد بعض ايذاء قريش لأن الأمر لم يكن سوى شائعة.
وعندما فتح الله أبواب الأمل العظيم، وتمت بيعة العقبة الثانية وأذن الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة الى يثرب، هاجر أبو عبيدة وعاش في المدينة ينتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم والقليلين الذين كانوا معه في مكة من أمثال أبي بكر وعلي، فضلاً عن المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للهجرة.
وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم فأشرقت المدينة واطمأنت قلوب المهاجرين بالاستقبال الحافل الذي قابلهم به اخوانهم الأنصار وبوجود الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.
وقد شارك أبو عبيدة في كل الغزوات الكبرى وعلى رأسها “بدر الكبرى” التي وقعت في السنة الثانية للهجرة، وفوجئ أبو عبيدة بوجود أبيه أمامه، فبذل أبو عبيدة جهده في أن يتجنبه وكان يهرب من أمامه، لكن غلظة أبيه وقسوة قلبه دفعتاه إلى أن يحاول قتل ابنه ويتتبعه في المعركة كلما انصرف عنه وهرب من أمامه، مما تجلى معه اصراره على قتل ابنه أبي عبيدة، فلم تكن هناك حيلة أمام أبي عبيدة إلا أن يدافع عن نفسه مما أدى إلى قتله لأبيه، ونحن لا يمكننا أن نزعم أن أبا عبيدة لم يتأثر بهذا المصير لأبيه، وانه لم يحزن للموقف الذي وضعه فيه أبوه وألجأه إليه حتى قتله، وهنا ينزل القرآن يشيد بموقف أبي عبيدة ويبشره بالجنة وبرضا الله وبانتمائه إلى حزب الله، قال تعالى: “لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو اخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان، وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون”.
وفي السنة الثالثة للهجرة كانت موقعة (أحد) التي حاول فيها المشركون الانتقام لنكبتهم في غزوة “بدر” وقد نصر الله المسلمين في أول المعركة لولا ان الرماة خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مواقعهم فهاجمهم المشركون من الخلف، ودفع الرسول صلى الله عليه وسلم أغلى ثمن حين انفرط عقد جيش المسلمين وعمد المشاركون إلى التركيز على الرسول صلى الله عليه وسلم لقتله، فتحلق حوله عدد من المسلمين يفدونه بأرواحهم وأجسادهم حتى من النساء.
وكان أبو عبيدة ممن ثبت مع الرسول في هذه المحنة، وقد شهد أبو بكر الصديق صلى الله عليه وسلم بذلك عندما قال: “لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر “زرد يلبس فوق الرأس عند الحرب” فأقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت اللهم اجعله طاعة، حتى توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أبو عبيدة بن الجراح قد بادرني فقال: أسألك بالله يا أبا بكر إلا تركتني أنزعه من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيته احدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى، فسقطت، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم..”.
أمين الأمة
وثق الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي عبيدة وقدرته الحربية فبعثه قائداً في بعض السرايا منها سرية “ذي القصة” وفي غزوة “ذات السلاسل” والى حي “جهينة” قرب ساحل البحر، كما أسهم في فتح مكة تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم وكان في مقدمة الجيش.
وأرسله الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً لأهل اليمن قائلاً في تزكيته “هذا أمين هذه الأمة”، كما أرسله إلى أهل نجران بناء على طلبهم.
وفي حروب الردة أرسله أبوبكر الخليفة الراشدي الأول على رأس جيش عدته سبعة آلاف وخمسمائة مقاتل وأصدر أبوبكر أمراً للجيوش المرسلة للشام قائلا “إذا اجتمعتم على قتال فأميركم أبو عبيدة”.
وعندما جاء الدور على الشام والدخول في المعارك الحاسمة وعلى رأسها اليرموك، اختار الخليفة أبوبكر خالد بن الوليد قائداً عاماً، لكنه كتب كتاباً إلى أبي عبيدة يقول له فيه: “أما بعد فإني قد وليت خالد بن الوليد قتال الروم في الشام فلا تخالفه واسمع له وأطع أمره، فإني وليته عليك، وأنا أعلم أنك خير منه ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد”.
وقبيل المعركة حاول الروم التجسس على المسلمين لمعرفة قوتهم وضعفهم وأحوالهم المختلفة فأرسل قائدهم رجلاً من العرب اندس في صفوف المسلمين لينقل الأخبار للروم، فأقام فيهم سراً يوماً وليلة ورجع إلى قائد الروم، فقال له القائد: “ما وراءك؟ فقال يصف المسلمين: هم قوم يقومون الليل كله يصلون، ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل أسد بالنهار، لو يسرق ملكهم لقطعوا يده ولو زنى لرجموه لإيثارهم الحق، واتباعهم اياه على الهوى، فقال: لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم وكما ذكرت، لبطن الأرض خير لمن يريد قتالهم ولقاءهم من ظهرها، ولوددت من الله أن يخلي بيني وبينهم فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم عليّ”.
معركة اليرموك
وفي أثناء معركة اليرموك جاء نعي أبي بكر الصديق تولّي عمر بن الخطاب الذي أمر عمر بعزل خالد بن الوليد، عن قيادة الجيش وتولية أبي عبيدة مكانه، فاستلم أبو عبيدة الرسالة ولم يخبر خالداً بعزله، فلما علم خالد بعد ذلك عتب على أبي عبيدة، حيث ان كل واحد منهما لم يكن يرغب في الامارة لنفسه، وكان سبب عزل عمر لخالد خشيته من اتكال الناس عليه، حيث قال عمر رضي الله عنه “إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا اليه، فأحببت أن يعلموا ان الله هو الصانع للنصر، وليس خالد بن الوليد”.
وفتوحات أبي عبيدة بن الجراح لا تكاد تحصر، فثمة مدن كثيرة فتحها أثناء توغله في الشام، فقد فتح مدن حمص وحماة واللاذقية وانطاكية ومعرة مصرين وحلب وشيرز. وتحت قيادته جالت خيول المسلمين في تلك الربوع ففتحت يوقا وقرى الجومة وسرمين ومرتحون وتيزن. واستولى المسلمون على جميع أراضي قنسرين وانطاكية.
ثم سار أبو عبيدة إلى “قورس” فصالحها على صلح انطاكية، وفتح مدناً أخرى في تلك المنطقة هي “تل عزاز” و”منبج” و”دلوك” و”رعبان” على الصلح، واشترط على أهلها أن يخبروا المسلمين بتحوطات الروم ووجه أبو عبيدة خالد بن الوليد وهو في “منبج” إلى مرعش، ففتحها، كما انه فتح حصن “الحدث” وبذلك أكمل أبو عبيدة فتح بلاد الشام.
ولهذا ليس من المبالغة في شيء أن نقول إن أبا عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد كانا قائدين عظيمين، بذلا حياتهما في سبيل الله، مؤثرين على نفسيهما، زاهدين في المناصب الدنيوية، متنافسين في رضا الله، ففازا بمجد الدنيا وثواب الآخرة “إن شاء الله”. ومن الغريب ان هذين الفاتحين العظيمين المنتصرين على امبراطوريتين راسختي الأقدام ماتا على فراشيهما حيث مات خالد ميتة طبيعية ومات أبو عبيدة في طاعون عمواس، وطالما تمنى كل منهما الشهادة في سبيل الله.
هكذا كانوا
حاول الروم التجسس على المسلمين لمعرفة قوتهم وضعفهم وأحوالهم المختلفة فأرسل قائدهم رجلاً من العرب اندس في صفوف المسلمين لينقل الأخبار للروم، فأقام فيهم سراً يوماً وليلة ورجع إلى قائد الروم، فقال له القائد: ما وراءك؟ فقال يصف المسلمين: “هم قوم يقومون الليل كله يصلون، ويصومون النهار، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، رهبان بالليل أسد بالنهار، لو يسرق ملكهم لقطعوا يده ولو زنى لرجموه لإيثارهم الحق، واتباعهم اياه على الهوى، فقال: لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم وكما ذكرت، لبطن الأرض خير لمن يريد قتالهم ولقاءهم من ظهرها، ولوددت من الله ان يخلي بيني وبينهم فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم علي
مواقع النشر (المفضلة)