هل تجوز محاسبة المفتي على خطئه ؟
أثارت بعض الفتاوى الشرعية أخيراً ردود فعل واسعة تجاه الإفتاء والمفتين، حيث طالب البعض بمحاسبة العالم على فتواه، فيما قدم أحد أساتذة الأزهر بالفعل إلى المساءلة القانونية. وبعيدا عن التهويل أو التهوين الذي صاحب بعض الفتاوى الشرعية، فإن القضية تطرح عدة علامات استفهام مهمة: هل يجوز شرعا وعرفا محاسبة المفتي على فتواه؟ ومن الذي يحاسبه وكيف يتم هذا؟
هل تحول الأمر من مناقشة هادئة للآراء الشرعية إلى هجوم وانفعال ضد بعض أهل العلم؟ ولماذا يعتبر البعض فتوى خاطئة فرصة لتصفية الحساب مع أهل الفتوى وربما مع الدين كله؟
ان العالم يدرك قبل غيره أن لسانه وسمعه وبصره وفؤاده مسؤولة أمام الله، وأن العلماء ورثة الأنبياء كما في الحديث، وأن الإنسان ما أوتي من العلم إلا قليلاً: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً” (الإسراء: 85) وأن العالم مطالب بالإبلاغ، كما يحرم عليه الكتمان، وفي الحديث “بلغوا عني ولو آية”. وفي الحديث: “تناصحوا في العلم” و”من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”. كما يدرك المفتي أنه يتحمل المسؤولية عن المستفتي. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: “من أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه” ولهذا لا يتجرأ كل شخص على الفتوى، بل شاعت بين الفقهاء قاعدة: “من قال لا أدري فقد أفتى”. وهذا الإحساس بالمسؤولية هو المعنى الذي يعيشه المفتي والمستفتي معا.
أما مبدأ المساءلة فهو أمر استثنائي أراه مقبولا في الظروف الاستثنائية الحالية، ولهذا أنا مع إمكانية معاقبة المفتي في الوقت الحالي ولكن بضوابط وهي، أن يكون قد خالف أصلا من أصول الأحكام أو معلوما من الدين بالضرورة، وأن يكون ما قاله قد أدى إلى بلبلة بين الناس أو فتنة نفسية أو اجتماعية تشوش على المسلمين ثقافتهم الدينية وتشوه صورتهم الحضارية، وأن تتم هذه المساءلة أو العقوبة أمام جهات الاختصاص والعلم بأصول الأحكام وضوابطها الشرعية.
إن مبدأ المساءلة مقبول من منطلق أن لا عصمة لأحد غير رسول الله، ولكن هذا المبدأ لا يجوز أن يمارس من أي أحد أو ضد أي أحد، بل لابد من أن نحرر أولا المسألة وندرك حجم الخلاف ودليل كل على رأيه، ونتناصح في الدين ونقدر حجم الضرر والنفع، ولا يجيد هذا إلا أولو العلم والاختصاص الشرعي والقانوني.
بالنسبة لمبدأ رجوع المفتي عن فتواه، فقد ثبت في التجربة الإسلامية إمكانية حدوث هذا الرجوع بل استحسانه عندما يظهر للمفتي دليل جديد أو فهم جديد أو واقع جديد يقيس به أو عليه الحكم الشرعي.
والاختلافات الفقهية المتعددة هي نوع من الرجوع عن الفتوى من ناحية أنها ترتبط بالنص الشرعي وثبوته ودلالاته وبالواقعة وتكييفها ودلالاتها وحال السائل وفهم حال المسؤول، وقد كان ابن مسعود يرجع من قوله إلى قول عمر، كما كان الصحابة يرجعون إلى قول علي بن أبي طالب. ومشهور عن الإمام الشافعي أنه رجع عن بعض فتاواه عندما تبدلت الظروف واستقر في مصر.
وقد ناقش العلماء مسألة الرجوع في الفتوى فأباحوها بل استحسنوها، واختلفوا في هل يلزم المفتي أن يعلم المستفتي بالتراجع؟
فقيل يعلمه إذا لم يكن قد عمل بها، والأرجح أنه يعلمه إذا ظهر للمفتي أنه خالف النص الشرعي أو إجماع الأمة، ولكن إذا ظهر له أنه خالف الراجح أو خالف أحد الآراء أو المذاهب فلا يلزم المفتي إعلام مستفتيه بالرجوع.
كما ناقش العلماء مسألة ضمان المفتي للنفس والمال في حالة تلفهما بسبب فتواه التي ثبت خطؤها.
والرأي الراجح هو المنسوب للمذهب الشافعي وهو أن الأصل أن لا ضمان ولكنه يضمن في المال والنفس إن كان المفتي أهلا للاجتهاد. أي أن يكون متخصصاً ومكلفاً بهذا مثل منصب المفتي في الوقت الحالي، وكانت فتواه قد خالفت الحكم القاطع.
أما إن لم تكن الفتوى قد خالفت الحكم القاطع، أو كان المفتي ليس أهلا ولا متخصصا، فلا ضمان عليه لأن المستفتي نفسه قد قصر في أمر نفسه وفي أمر دينه ولم يتحسس موضوع الفتوى رغم أهميتها الدينية والدنيوية.
أربعة ضوابط يجب أن تحكم هذا الغبار الذي يثار حول الفتوى والإفتاء.
الأول: الإحساس بقيمة الكلمة وخطورة الرأي الشرعي، إذ من غير المعقول أن تفقد الكلمة أهميتها عند بعض الذين يتحدثون في الدين أو بعض الذين ينتقدونهم.
الثاني: مقاومة التحايل والتنطع الذي يقع فيه بعض الناس، سواء من المستفتين أو من بعض رجال الإعلام وربما من بعض العلماء أنفسهم، فالإسلام شجرة وارفة، والناس محتاجون إلى من يشغلهم بالقضايا الكلية بعيدا عن القضايا الجزئية.
يجب أن نربي في الأمة، قلة الجدل وقلة السؤال والسمع والطاعة لظاهر الحكم الشرعي، وفي الحديث: “إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها”. وصدق الله تعالى في قرآنه الكريم: “وما كان ربك نسيا”.
الثالث: يجب أن نحترم التخصص، كما يجب أن يحتكم الناس فيما أشكل عليهم إلى الفقهاء الثقات ومؤسسات الدعوة.
والرابع: ضرورة المحافظة على وقار العالم في دنيا الناس حتى لو اخطأ أو اختلف معه الآخرون، وقد لاحظت في الفترة الأخيرة أن كثيرا من الكتاب يتجرؤون على العلماء ويغمزونهم بما يصيب، وهو سلوك شديد الخطورة ليس على العالم الديني فحسب بل على المعرفة الإنسانية بشكل عام.
يجب أن نربي الناس على توقير العلم والعلماء، كما يجب أن نربيهم على أدب الحوار والاختلاف وفي الحديث: “إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع.. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر”.
وفي تصوري أننا لو راعينا مثل هذه الضوابط ووضعنا الأمور في قدرها دون مبالغة أو تعميم، لما حدث مثل هذا اللغط المؤذي لنا جميعا.
مواقع النشر (المفضلة)