الحلف على إكرام الغير
إكرام الضيف وغيره خلق إسلامي، قد يبالغ البعض فيه إلى حد الإقسام على الضيف بالاستجابة إلى دعوة مضيفه، ومن العبارات التي يجيب بها الضيف في غالب الأحوال ليميط الحرج عن مضيفه، أن “يمين الكرم لا يحسب”، أو “لا يؤاخذ الله عليه الحالف”، وهي عبارة غير دقيقة من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، فقد اتفق جمهور الفقهاء على أن من حلف على غيره بالأكل عنده أو المبيت أو المكث أو الإقامة أو نحو ذلك، قاصدا به إكرامه ليدفعه بهذا الحلف إلى الإبرار بالقسم، أنه يمين منعقدة شأنها في ذلك شأن سائر الأيمان المنعقدة، وأنه يجب عند الحنث فيها الكفارة التي قررها الشارع عند الحنث في اليمين، لقول الله تعالى: “لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم”، وقوله تعالى: “لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان”، ولغو اليمين التي لا يؤاخذ المرء عليه، ولا يجب عليه فيه كفارة: هي التي يسبق لسان المرء إليها من غير قصد منه، إذ روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله”، إذ أفاد الحديث بأن من قال في حالة لجاج أو عجلة منه أو من غير قصد: لا والله، وبلى والله، فإن يمينه لغو وغير منعقدة، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “اللغو في الأيمان ما كان في المراء والهزل والمزاحة، والحديث الذي لا يعقد عليه القلب، وأيمان الكفارة على كل يمين حلفت عليها على جد من الأمر في غضب أو غيره لتفعلن أو لتتركن، فذلك عقد الأيمان، فيها الكفارة”، وقيل: إن يمين اللغو هي أن يحلف المرء على أمر ماض أو حاضر على ظن أنه كذلك، وهو بخلاف ما ظنه، وقد وردت الأيمان في الآيتين السابقتين بصيغة العموم، فأفادتا أن اليمين التي يؤاخذ عليها المرء، ويجب عليه الكفارة بالحنث فيها كل يمين منعقدة، سواء قصد بها إكرام الغير أو غيره، ومما يدل لانعقاد يمين الإكرام هذه ما رواه تميم الطائي عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير”، فإن اليمين في الحديث يقصد بها اليمين المنعقدة وليست يمين اللغو، بدليل وجوب الكفارة فيها، وقد وردت لفظة اليمين في الحديث بصيغة العموم، فأفاد أن كل يمين منعقدة يوجب الحنث فيها كفارة، سواء قصد بها الإكرام أو غيره، ويرى ابن تيمية أنه لا يجب بيمين الإكرام شيء، لما روي عن سهل بن سعد الساعدي (رضي الله عنه) قال: “ذهب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال: أتصلي بالناس فأقيم؟، قال: نعم، فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة، فلما أكثر الناس التصفيق التفت، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأشار إليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن امكث مكانك، فرفع أبو بكر يديه فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ذلك، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم النبي (صلى الله عليه وسلم) فصلى ثم انصرف، فقال: يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟، قال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق، من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء”، حيث دل الحديث على أن أبا بكر أراد بتأخره عن إمامة الناس في الصلاة إكرام رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، مع أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أمره بالبقاء حيث هو، والامتثال لهذا الأمر واجب، ولم ينكر عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عدم امتثاله الذي قصد منه إكرام النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن ثم فإن اليمين التي قصد بها الإكرام لا يؤاخذ الحالف عليها ولا يجب بالحنث فيها كفارة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحدث: “أن رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله إني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها بأيديهم فالمستكثر والمستقل، وأرى سبباً واصلاً من السماء إلى الأرض، فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل من بعدك فعلاً، ثم أخذ به رجل آخر فعلا، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلاً، قال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فلأعبرنها، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): اعبرها، قال أبو بكر: أما الظلة فظله الإسلام، وأما الذي ينطف من السمن والعسل فالقرآن حلاوته ولينه، وأما ما يتكفف الناس من ذلك فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت أصبت أم أخطأت؟، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أصبت بعضا وأخطأت بعضا، قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني ما الذي أخطأت؟، قال: لا تقسم”، حيث دل الحديث على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر أبا بكر بالتكفير عن يمينه، ولم يثبت أن أبا بكر كفر عنه، لأنه لم يرد به إلزام النبي (صلى الله عليه وسلم) بإخباره عما أخطأ به في تعبير الرؤيا، مما يدل على أن اليمين التي لم يقصد بها الإلزام بل قصد بها الإكرام لا كفارة فيها، وإذا نظرنا إلى ما استدل لمذهب ابن تيمية نلحظ أن حديث سهل بن سعد الساعدي في تأخر أبي بكر (رضي الله عنه) عن إمامة الناس في الصلاة ليصلي بهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ليس فيه دلالة على عدم المؤاخذة على اليمين التي قصد منها إكرام الغير، لأن الحديث ليس فيه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقسم على أبي بكر أن يثبت في موضعه، وليس فيه كذلك أن أبا بكر (رضي الله عنه) أقسم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يتقدم الناس في الصلاة، ولذا فلا وجه للاستشهاد به في حكم يمين الإكرام، لخلوه من هذه اليمين، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في إقسام أبي بكر (رضي الله عنه) على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبين له وجوه الإصابة والخطأ في تعبيره الرؤيا، ليس فيه إلا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نهاه عن القسم فقط، ولم يرد في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يبر بقسم أبي بكر حتى يقال بأنه لم يكفر عن الحنث في يمينه، ولو سلم بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يستجب لما أقسم به أبو بكر، فإن أبا بكر لا يخفى عليه أمر الكفارة عند الحنث في اليمين، ولم يرد الحديث لبيان حكم اليمين أو كفارتها في حال الحنث، حتى يستشهد بها عليه، فالاستشهاد بالحديث على عدم المؤاخذة على يمين الإكرام، هو من قبيل تحميل دلالة الحديث فوق ما تحتمل، ولذا فإن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من أن اليمين التي قصد بها صاحبها إكرام غيره، يمين منعقدة يؤاخذ صاحبها عليها بحيث يجب عليه كفارتها إن حنث فيها، لقوة ما استدلوا به على مذهبهم.
مواقع النشر (المفضلة)