ساعات طويلة يقضيها المصريون في المواصلات العامة، لبعد المسافة الفاصلة بين المنزل والعمل حيناً، ونتيجة للزحام الشديد أحياناً أخرى، منهم من يضيّع ذلك الوقت في قراءة احدى الصحف، ومنهم من يتبادل أطراف الحديث مع من يجلس إلى جواره، بينما يخلد آخرون إلى النوم من شدة التعب، باستثناء “الست ماجدة”، المصرية الشابة التي وجدت في وسائل المواصلات فرصة ذهبية لتحقيق ذاتها والوصول برسالتها إلى الناس.

“الست ماجدة” هو الاسم الذي تطلقه راكبات المترو في القاهرة على تلك الشابة التي قررت أن تستغل عربة السيدات في “مترو الأنفاق” في تقديم النصائح الدينية والدنيوية للفتيات والسيدات، مستغلة في ذلك “كاريزما” مكنتها من جذب انتباه كل من حولها، اضافة إلى قدرة هائلة على الخطابة بصوت جهوري.

بين محطتي “حلوان” و”السيدة زينب” تمارس ماجدة هوايتها المفضلة في القاء الخطب داخل عربة السيدات، التي عادة ما تكون مزدحمة للغاية، خاصة خلال أوقات الذروة، والتي تعتبرها ماجدة أسعد لحظات تقضيها في يوم مليء بالتعب والارهاق.

وتقطن الست ماجدة في ضاحية حلوان جنوب القاهرة، وتعمل ممرضة في مستشفى قصر العيني بوسط العاصمة، وهو ما يعني أنها تقطع المسافة بين بيتها وعملها في مترو الأنفاق لمدة ساعة تقريبا يوميا، وهو وقت كاف بالنسبة لماجدة كي تمارس هوايتها في تقديم النصح والارشاد لراكبات المترو.

البداية كانت مصادفة بحتة سرعان ما تحولت إلى عادة، قادتها إلى حمل لقب “داعية مترو الأنفاق”، وعن تلك التجربة تقول “ماجدة”: الصدفة وحدها هي المسؤولة عن هذا اللقب، فلأنني أسكن في حلوان، وأستقل المترو يومياً خلال ذهابي إلى العمل والعودة منه، اعتدت على تبادل أطراف الحديث مع المحيطات بي، حيث تشكو كل واحدة منا همومها إلى الأخرى، وفي بعض الأحيان كان الأمر يبدو وكأنه ندوة أو حلقة نقاشية نتيجة كثرة المشتركات في الحديث من جهة، والاهتمام الكبير الذي توليه الراكبات للحديث، الذي كان يتطرق دائما إلى نواحٍ حياتية عدة، كمشاكل العنوسة، وتأخر سن الزواج، والمشكلات الزوجية، والمعاناة في تربية الأبناء، اضافة إلى الصعوبات الاقتصادية نتيجة ارتفاع الأسعار بشكل جنوني.

كانت كل واحدة تدلي بدلوها في الحديث، وكانت ماجدة أكثر من يهتم بتلك الحوارات، وهي تقول عن ذلك: لم أكن أجد من أتحدث اليه في البيت، فليس عندي أبناء كما أن زوجي يعمل في محافظة أخرى، ولا يعود إلى البيت الا مرة واحدة كل أسبوع، ومن هنا وجدت ضالتي في تلك الحوارات التي غالبا ما كنت أقودها في الطريق الذي أحدده.

في البداية لم يكن هناك سابق معرفة بين ماجدة وبين من تتحدث اليهن من الراكبات، إلى أن توطدت علاقتها ببعضهن وصارت أقرب إلى الصداقة، وتقول ماجدة: كنا نستقل جميعا المترو في وقت واحد، نذهب في التاسعة صباحا ونعود في الخامسة مساء، وكوّنا شلة من الأصدقاء تضم ما يقرب من عشر سيدات، وفي حال وصول احداهن مبكرا إلى المحطة تنتظر الأخريات، حيث نستقل المترو معا وسرعان ما أبدأ في القاء الخطبة على جميع الحاضرات، بغض النظر عن وجود سابق معرفة بيننا أم لا، ومن حقهن الانصات، وأيضا من حقهن عدم الاهتمام بما يقال، لكن في أغلب الحالات كان الجميع يبدي اهتماما بما أقول.

وعن طبيعة الموضوعات التي تتناولها “الست ماجدة” في خطبها تقول: لا أُعد لما سأقوله وأترك الأمور تسير من دون تخطيط، فعلى سبيل المثال اذا وجدت فتاة تشكو من تقدمها في السن من دون أن تتزوج، أجد نفسي أتحدث عن العفة وضرورة الحفاظ عليها في الاسلام، وأنصح الفتيات بعدم الانسياق وراء كل شاب يعدهن بالزواج، لأنه قد يكون كاذباً ويحاول خداع الفتيات باسم الزواج، حتى يصل إلى غرضه غير الشريف، وبحكم الخبرة التي أتمتع بها في الحياة، فأنا دائما أدعم وجهة نظري ونصائحي بالقصص الحقيقية التي وقعت لواحدة ممن أعرفهن، أو سمعت بها من صديقة لي، وهذا ما يجعل الجميع منتبها لما أقول، لأنه كما هو معروف فالقصص تجذب الآذان والقلوب.

ولا تجد ماجدة صعوبة في تحضير خطبها التي تلقيها على راكبات المترو، فهي تعتمد بشكل شبه كامل على متابعة محاضرات رجال العلم والدين على شاشات التلفزيون، إلى جانب عدد كبير من تسجيلات كبار ومشاهير الدعاة، التي تقول عنها: أحفظها جيدا لأقوم بترديدها ثانية، ولكن بأسلوب مختلف وأدعمها بمواقف من الحياة التي نعيشها، كما أنني أقرأ الأبواب الدينية في الصحف وأتابع صفحات الحوادث أيضا، فمنها أستخلص العبر لما قد يتعرض له المرء في حياته من ابتلاءات، واختبارات تقوده في النهاية إلى الهلاك أو ينجح فيها ويعبر إلى بر الأمان.

وتعترف داعية المترو بأن عملها بمهنة التمريض ساهم كثيرا في دفعها إلى تلك الطريق التي تسير فيها، فالتمريض علمها الصبر والتعامل بهدوء مع المواقف التي قد تتعرض لها، ومع الأشخاص الذين قد تلتقي بهم.

وتقول ماجدة انها تملك قدرة هائلة على الصبر وتحمل مشاق الحياة، وتدلل على ذلك بأنها لا تكتفي بخطبة الصباح حيث تكون في منتهى النشاط خلال ذهابها إلى العمل، ولكنها تصر أيضا على القاء خطبة الاياب خلال عودتها من العمل، غير عابئة بالمجهود الذي بذلته طيلة اليوم في المستشفى الذي تعمل به، وتقول انها تنقل إلى الراكبات ما استفادت منه في ذلك اليوم من عبر، عبر العديد من المواقف التي تعرضت لها في العمل.

ولا تأخذ خطب “داعية المترو” طابعا دينيا كما قد يظن البعض، لكنها تمتد لتطال الطابع الاجتماعي الذي يعتمد في الأساس على الاستفادة من التجارب الحياتية التي يمر بها الانسان، وتعترف بأنها لا تحفظ القدر الكافي من الآيات القرآنية، ولا تحفظ الا عددا محدودا من الأحاديث النبوية الشريفة، مشيرة إلى أن خطبها مجرد نصائح للفتيات والسيدات كي يبتعدن عن الأخطاء.

وبقدر ما تجد “ماجدة” إنصاتاً من البعض تجد لامبالاة من أخريات حيث تقول: هناك من لا تهتم بما أقول على الاطلاق، بل ربما ابتعدن عن المكان الذي أجلس فيه، حتى لا يستمعن اليّ ربما لأنهن مرهقات من العمل ويرغبن في الهدوء، وربما لأن حديثي يذكرهن بما يقمن به من أخطاء، ولكن في الوقت نفسه هناك من تهتم بما أقول، بل هناك أيضا من ينتظرن قصصي ونصائحي اليومية، حتى إنه عندما يكون هناك ما يشغلني فلا أبدأ في الحديث، أجد من تصر على ذلك وأضطر إلى الاستجابة لطلبها، وفي أحيان أخرى أجد من تنتظرني في المحطة من دون أن تكون بيننا سابق معرفة شخصية، وتركب معي المترو انتظارا لسماع النصائح اليومية.