يميل الإنسان بطبعه وفطرته إلى التطلع نحو الأفضل وبذل الجهد تلو الجهد في سبيل تحقيق ما يرنو إليه، ويرجع الاختلاف بين أهداف كل منا وطريقة الوصول إليها إلى أصل التكوين البشري الذي يتحدد على أساسه كثير من السلوكيات والمواقف التي إما أن تعكس المبدأ “الميكيافيللي” الخالص (الغاية تبرر الوسيلة)، وإما أن تلفظه تماما.
والحقيقة أن تصرفات الإنسان لن تكون إلا انعكاسا لقناعاته الشخصية ودرجة إيمانه بما يتبنى من أفكار ورؤى، وهذه بدورها تلعب عوامل التنشئة دورا بارزا في تكوينها وبلورتها، ولعل صفة القناعة هي إحدى الصفات التي يمكن غرسها ورعايتها في النفس البشرية منذ نعومة الأظفار، والقناعة هي مزيج من الإحساس بالرضا والثقة بالنفس وفي قدراتها مهما قست الظروف، والتسامح ونبذ الحقد والغيرة إضافة إلى الثقة في عطائه سبحانه وتعالى.
القناعة هبة من عند الله عز وجل لعباده تترسخ وتنمو بفضل الرعاية المستمرة إلى أن تتأصل وتصمد في مواجهة معاول الهدم والانجرار وراء الأنانية والمصالح الفردية والطمع والجشع، وكلها مغريات لا يقوى على صدها إلا كل من يتصف بالثبات على المواقف، والقناعة باعتبارها صفة عزيزة لا يتمتع بها بنو البشر جميعاً وأنها لا تجتمع في إنسان إلا مع كل ما هو خير وجميل، باعتبار أن الإنسان كل لا يتجزأ كما ذكرنا من قبل.
القناعة لا تعني إلغاء الطموح أو الحد منه، فالسعي والجد والكد كلها أمور مشروعة مادامت تصب جميعها في إطار أخلاقي، ومن ثم فإن القناعة لا تعني أن يكون الإنسان مستسلما تاركا أمور حياته تتخبط هنا وهناك بغير هدى، ولكنها تعني أن على المرء أن يسعى بدأب بوسائل مشروعة ثم يترك الأمر بعد ذلك على الله سبحانه وتعالى، وهو على ثقة وقناعة بأن جهده لن يضيع هباء وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
الإنسان القنوع يشعر دائماً بنعم الله عليه ويتلمسها ويعددها في كل وقت وحين، لا يحقد ولا يغير ولا ينظر إلى ما في أيدي الآخرين، ينتابه إحساس دائم بالرضا ويسبح لسانه بحمد الله عز وجل على نعمه ما ظهر منها وما بطن.
وعلى الجانب الآخر فإن غياب القناعة يأخذ الإنسان إلى مزالق خطيرة وطرق وعرة قد يفتقد فيها البوصلة التي يهتدي بها في دوامة الحياة، لان الشخص غير القنوع لا يشعر أبدا بالاستقرار ولا يهنأ له بال، فتارة ينظر إلى هذا ويحاول تقليده وتارة يجري وراء ذاك ويحاول اقتناء ما يقتنيه ويظل الإنسان في حالة تشتت دائمة لا تتوافر معها عناصر الاستقرار على المستويين العملي والشخصي.
وقد يدفع عدم القناعة إلى اتباع أساليب وطرق ملتوية تبعد الإنسان تماما عن الإطار العام للأخلاق والفضيلة من أجل تحقيق مآربه الشخصية، وفي سبيل ذلك لا يتورع عن أن يتخطى مصالح بل وحقوق الغير من دون الشعور بوخزة ضمير، والغريب أن عدم القناعة قد يصيب أناساً أتاهم الله من فضله الكثير ولكنهم لا يشعرون بالرضا ويتطلعون نحو المزيد دائما وأبدا، ومثل هؤلاء يصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم “ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس” والعرض هنا بفتح العين والراء هو المال.
غنى النفس هو الثروة الحقيقية التي لا تنفد ولا تتبدد، وكم من فقراء يتمتعون بقناعة يفتقدها أصحاب الملايين، وحتى إن مرت عليهم أحلك الظروف تجدهم قانعين بما آتاهم الله وما رزقوا به مهما كان قليلا، لا ينظرون إلى من هم أغنى منهم ولكنهم ينظرون إلى حال من هم أقل منهم، فيشعرون بأنهم أفضل حالا من غيرهم، بمعنى أنهم لا يأبهون بنصف الكوب الفارغ ولكن أنظارهم معلقة دائماً بالنصف المملوء.
غياب القناعة يولد مشاعر الحقد والحسد والبغضاء، وإذا ما اتخذنا من غنى النفس درعا لحصنا أنفسنا ضد مشاعر تفرقنا مسافات ومسافات.
مواقع النشر (المفضلة)