الأهل صغيرتهم تودع الدنيا، ودماؤها تنزف، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه مشكلتهم.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية، فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها، فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك فلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، فقال: لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا، فقال: فلان؟ لقاتلها فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين”.


تدبرت النص فوجدت الآتي:

احتراف الإجرام

أولاً: لن يرضى اليهود عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولن يرحموا طفلة ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة عجوزاً، ولا مريضاً وسيدمرون حين تتاح لهم الفرصة الحرث والنسل والبناء، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها النص الوارد.

ثانياً: من تعمقت فيه نفسية الإجرام فلن يقف عند حد، فالمجرم في هذه القصة لم يكتف بسرقة حلي الطفلة (والأوضاح تعني الحلي الفضية) وإنما تمادى في إجرامه فقتلها، شر قتلة، فلك أن تتخيل طفلة يطحن المجرم رأسها بحجرين، وأن تتخيل آلامها وصراخها، وهكذا شأن المجرمين الذين يسفكون الدماء وييتمون الأطفال ويرملون النساء ويدمرون البلاد.

ثالثاً: من المهم جداً الرجوع إلى ولي الأمر أو من أوكل لهم النظر في شؤون العباد عند حدوث المشكلة، لا أن يأخذ كل واحد حقه بطريقته، فهذا من مدعاة فشو الفساد في الأرض، وهذا ما صنعه الصحابة أهل الطفلة، ذلك أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه أمرهم.

رابعاً: من المهم لمن يتعامل مع مشكلات الناس أن يقف على الأدلة قبل فوات الوقت، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى أن الصغيرة تودع الدنيا، فأحب أن يقف على الدليل قبل وفاتها، لأنه بموتها يموت الدليل، ولذا سألها وهي في الرمق الأخير عمن قتلها.

خامساً: من الفطنة ألا يبدأ المتعامل مع المشكلات في توجيه الاتهام إلى من تدور الشبهات حوله وإن وصلت إلى درجة اليقين، كما في النص “فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتلك فلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا، فقال: ففلان؟ لقاتلها فأشارت أن نعم”.

سادساً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم بقول الطفلة وإنما استمع إلى الطرف الآخر، وهذا هو الانصاف، فلما أقر اليهودي بفعلته كان القصاص.